عاشت عين أبل يوم السبت 22 اوكتوبر 2011 ساعات من الشعور بالعزة والفرح
عندما استقبلت في جو مفعم بأصالة التراث وعبق التاريخ المجيد وجمال الفن المحلي قطعة أثرية نادرة آتية الى دار بلديتها من متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية ، بعد أن وصلت الى مطار بيروت منذ أيام قليلة بواسطة المؤسسة اللبانية "برومو أوريان" المكلفة بنقلها.
عملية التسلم والتسليم لقطعة " أبولون وأرتميس " تمت في دار البلدية بين المؤسسة المشار اليها ممثلة بالسيدة ماري كلود بيطار والاستاذ فاروق بركات دياب رئيس المجلس البلدي في عين إبل ، المدير العام السابق في مجلس الوزراء، والذي شكر في كلمته الترحيبية كل من ساهم في تحقيق هذا الانجاز التراثي المميّز..
لدى وصول القطقة الأثرية أمام دار البلدية كان في استقبالها الى رئيس البلدية عدد من أعضاء المجلس البلدي والهيئة الاختيارية والأخوات الراهبات ووممثلون لجمعية أبناء عين إبل الخيرية في بيروت ونخبة من المثقفين والمعلمين والمعلمات وفرقة كشاف السيدة وعشرات من الأهالي.
بعد أن أنزلت القطعة من الشاحنة التي كانت تقلها من مطار بيروت الى عين إبل ، وتعاون على حملها عناصر من الشبيبة والكشافة العين إبلية نقلت الى الطابق الارضي من البلدية بدلا من احد مكاتبها في الطوابق العليا، نظرا لصعوبة حملها من جهة ، وحرصا من مؤسسة "برومو أوريون " المكلفة بعملية النقل على تسليمها سالمة من مكان منشئها في متحف اللوفر –باريس، الى مكان غايتها دار البلدية في عين إبل من جهة أخرى.
في ساحة البلدية في عين إبل ساد الحضور جو من الاندهاش وعلامات الابتهاج عندما ظهر الشكل المتناسق هندسيا ، بما فيه من تموجات الوان صخرية تشكلت على مدى اكثر من 1800 سنة، متفاعلة مع عوامل الطبيعة والبيئة الزراعية الهادئة والهانئة في فينيقيا الثانية والجليل الأعلى، في الجنوب اللبناني الحالي، أو ما سمي لاحقا بلاد بشارة وجبل عاملة.
وكمغترب عائد الى موطنه الاول بعد طول غياب كان استقبال لوحة "ابولون وأرتميس" ، بعد أن كان قد تم ترحيلها منذ ما ينيف عن قرن ونصف القرن من فوق تلة من تلال عين إبل الشمالية الغربية الواقعة في منطقة الدوير من خراج البلدة المنفتحة على افق بانورامي جميل.
الرسم المميّزالذي تحمله اللوحة كان عبارة عن رسم محفور في الصخر الكلسي الأبيض للثنائي الالهي الوثني ( أبولون وأرتميس) تتوسطهما شجرة نخيل كانت رمزا ل" بلاد صور" في عهدها الروماني وسواها من العهود السابقة ، ورسم لثورين واقفين في وسط اللوحة يرمز الى الحياة الزراعية التي كانت المنطقة ولا تزال تتميز بها، وإن اختلفت الظروف على مدى الزمن.
كما تحمل اللوحة غيرذلك من الرموز الغنية بالمعاني المستوحاة من الميتولوجيا والاساطير ، ومن الخربشات المكتوبة باللغة اليونانية ، كاتمةً سر ذلك النصب التذكاري وأبطاله الذين غابوا في ظروف مشابهة لظروف زماننا وإن اختلف اللاعبون .
إن تلة الدوير الخالية حاليا من السكان لا يزال ترابها وما بقي من معالمها المبعثرة والمحفورة في البرك والآبار وقطع الفخار شاهدا على ماض عريق تأبى الابحاث الاركيولوجية أن تكشف الحجاب عن كل دوافنها.وهي إن نطقت لخجل الحاضر الحديث من بؤسه وتخلفه النسبي ولتباهى الماضي متفوقا ومتألقا في كل الميادين..
بعض هذه المعاني والصور كانت مدار بحث واستذكار في صالة البلدية ولمدة ساعة مع الجمهور وموضع مراجعة لذاكرة الدوير مع أبرز الاحداث والوجوه التاريخية السياسية والعسكرية والاجتماعية التي عايشت تلك الحقبة من الزمن، من خلال عرض بصري قدمه الاستاذ يوسف توفيق خريش (الذي كان المبادر في اطلاق هذا المشروع بالتعاون مع ابن عمه يوسف خليل خريش المقيم في باريس والذي يعود اليه الفضل في الاتصال بمتحف اللوفر ومتابعة تنفيذ مشروع اعادة هذه اللوحة النادرة الى موطنها).
أوضح خريش المتخصص في الفلسفة وعلم اللاهوت والمحاضر في الجامعة اليسوعية في بيروت والذي له بحث في "درب المسيح في جنوب لبنان" ان لوحة الدوير هذه هي خير تعبير عن مستوى الفن المحلي السيروفينيقي اللبناني الروماني في جنوب لبنان في اواخر القرن الثاني بعد المسيح ، وهي تعود الى سنوات تقع بين محطتين بارزتين من التاريخ الروماني في الشرق هما عهد سبتيموس ساويروس (193-213) وما رافقه من بداية للسيطرة السورية على عرش روما من جهة ، وبين نهاية عهد قسطنطين الذي اوقف الاضطهاد الديني على المسيحية (313) وأسس في الوقت نفسه ولفترة وجيزة ولاية اضافية على بلاد الشرق أطلق عليها اسم " اللواء العربي اللبناني العظيم” (Colonia Arabia Augusta Libanensis) . إقليم ضمّ قسما من لبنان الجنوبي الشرقي ، وعين إبل فيه، كجزء من ذلك اللواء او ألأقليم العظيم.
الى ذلك شمل العرض ايضا نبذة عن العالم الفرنسي أرنست رينان مكتشف اللوحة ، والظروف التاريخية التي جاءت فيها البعثة الفرنسية الخاصة بالتنقيب عن الآثار الفينيقية التي كان هو على رأسها . وكان ذلك في اطار بعثة عسكرية وسياسية أوسع كان قد نظمها نابوليون الثالث الى لبنان عام 1860 ، في نهاية احداث تلك السنة المشؤومة والمعروفة.وقد ترك لنا رينان كتابا ضخما عن نتائج تلك البعثة في كتابه " بعثة فينيقيا"، الذي يعد من أهم المراجع حول المعالم الأثرية الفينيقية في لبنان.
ثم توقف المحاضر على مشاهدات رينان في خربتي الدوير وشلعبون حيث أبرز ما شاهد فيهما مجموعة من الآبار وبقايا مبان ونواويس تعود الى امراء غساسنة كان بعض معالمها لا يزال ظاهرا للعيان الى زمن قريب. ومن الجدير ذكره أن رينان شاهد في خربة شلعبون القريبة من موقع الدوير مدفنا شبيها بمدفن السيد المسيح في اورشليم ، وشارات تذكر بشارة الملك قسطنطين ، وهي كناية عن ثلاثة رماح متصالبة لا تزال إحداها مدرجة في جدار كنيسة السيدة في عين إبل ، وقد جاء بها بناؤو البلدة وحجّاروها من خربة شلعبون في نهاية القرن التاسع عشر لدى بناء كنيستهم الحالية .
بعد موجز عن تلك الحقبة والظروف التي حملت العالم الفرنسي أرنست رينان الى اكتشاف تلك اللوحة ( 1861) وكيفية قطعها على يد الحجارين والبنائين العين إبليين المهرة، ومن ثم نقلها على ظهر جمل الى مدينة صور اولا ، ومن هناك عن طريق البحر الى حيث تستقر منذ 150 عاما في متحف اللوفر ، دعي الحضور الى شرب نخب المناسبة وتناول الحلوى ، يقينا من أصحاب الدعوة بأنها مناسبة عزيزة للأحتفال بالتراث لا العين إبلي وحسب بل بالتراث الوطني كله باعتباره أيضا ثروة ينبغي عدم التفريط بها بأي شكل من الأشكال.
ثم كان توقيع وثيقة التسلم والتسليم بين بلدية عين أبل والمؤسسة المكلفة بعملية النقل من فرنسا الى لبنان .وبعدها لبى الضيوف دعوة رئيس البلدية الى الغداء في مطعم قصر الصنوبر.
ويجدر التذكير ختاما بأن لوحة "ابولون وأرتميس" ، كما أفاد كل من نائب رئيس البلدية طارق عتمه والاستاذ الجامعي رئيس اللجنة الثقافية في مجلس البلدية بسام خريش ، ستقيم حاليا ومؤقتا في دار البلدية في عين إبل لمدة أشهر معدودة على أن يتم تثبيتها لاحقا خلال السنة الحالية في مكان دائم في أحدى ساحات البلدة أو حدائقها.