كلنا للوطن .أي وطن؟

SmileyCentral.com
Affichage des articles dont le libellé est عين ابل ، الاب ايلي خويري. Afficher tous les articles
Affichage des articles dont le libellé est عين ابل ، الاب ايلي خويري. Afficher tous les articles

mardi 26 mars 2019

مذبحة عين ابل في الخامس من ايار 1920 - بحث جامعي - للاب ايلي خويري


في ما يلي بحث جامعي أعده الاب ايلي خويري في اطار دراسته في جامعة الروح القدس الكسليك سنة 2016 ، نثبتها على هذا الموقع لتمكين الاصدقاء من العودة الى قراءتها في مناسبة مرور المئوية الاولى على ولادة لبنان الكبير ، والاضاءة على حدث كان له اثره الكبير في تلك الظروف التاريخية المصيرية .

"إن البطريركيّة المارونيّة تدعو الجميع إلى التمعّن بطبيعة هذا الوطن، الذي يولد ويتطور باستمرار من تجربته التاريخية الطويلة في العيش معًا. وفعل الإيمان هذا يعني أن الكنيسة تنظر بواقعية، ولكن برجاء أيضا، إلى المستقبل، على رغم الأزمات التي لم يخل يومًا منها تاريخنا، وقد استفدنا من معظمها في السابق لبلورة هويتنا الوطنية. "
بهذه الكلمات المليئة بالرجاء والواقعيّة، نستعدّ للإحتفال بالمئويّة الأولى على إعلان قيام "لبنان الكبير" في الأوّل من أيلول 2020.  وولادة وطننا - الكبير رغم صغره - سبقها مخاض كان لا بدّ منه. وهذا المخاض الدمويّ الذي دفع ثمنه مَن آمن بقضيّة الوطن، هو نفسه يحرّك الوطنيّين إلى يومنا، ليبقى لبنانهم الكبير كبيرًا.
أهل عين إبل الجنوبيّة هم من بين الكثر الذين اندفعوا لمشروع الدولة وناضلوا في سبيله باذلين دماء أعناقهم. نستذكر في هذا المقال بسالتهم التي دفعتهم في الخامس من أيّار 1920 إلى تقديم عشرات الأبطال والضحايا على مذبح الوطن، قبيل أن يولد الوطن. 
يرغب الكثر في تناسي أخبار كهذه، خوفًا من تجييش الناس ومن إشعال البغض والحقد بين أبناء الوطن الواحد بسبب أحداث لم يعايشوها بل سمعوا أخبارها من أجدادهم الذين سردوها على مسامعهم من وجهة نظر قد تنقصها بعض الموضوعيّة.
والحال أنّ المصالحة لا تتمّ بتجاهل التاريخ وتناسيه، بل بشفاء ذكرياته وبالإعتبار من أحداثه.
من هنا لا بدّ بدايةً من التنويه بهدف هذا المقال، ألا وهو التشديد على وحدة الوطن وأبنائه، وعلى خطورة التقوقع والرفضيّة، وعلى إلزاميّة الشراكة بين مختلف انتماءات اللبنانيّين. 

I. مصادر الدراسة.
حاول المقال اعتماد المنهجيّة العلميّة الموضوعيّة قدر المستطاع، مستندًا إلى المصادر والوثائق التي لا يُكتب التاريخ بدونها. وقد جمع هذه المصادر مشكوران كلّ من الاستاذ جوزف خريش والسيد مروان إندراوس، وسهَّلا البحث من خلال تنسيقها ونشرها عبر الإنترنت. فلهما كلّ الشكر والتقدير على العمل الجبّار الذي قام به كلّ منهما.
المصادر المطبوعة التي تناولت مجزرة عين إبل 1920 قليلة، أبرزها شهادة الأمّ كليمنتين خيّاط الحلبيّة، رئيسة دير راهبات القلبين الأقدسين في عين إبل، وقد نُشِرَت في مجلّة المشرق . بالإضافة إلى تقارير ومقالات متفرّقة نشرت في صحف ومجلاّت محلّيّة وعالميّة. لذلك اعتمد البحث أيضًا على وثائق مخطوطة نُشِرَت عبر صفحات الإنترنت   أبرزها وثيقة وُجدت ملفوفة ضمن زجاجة في ضريح الشهداء في عين إبل أثناء أعمال الترميم عام 1980، ووثيقة خطّها الخوري يوسف فرح.
ولا بدّ من ذكر وثيقة لم يتسنَّ الإطّلاع عليها أثناء كتابة المقال، يقال أنّها الأشمل، وهي ما  يقارب العشرين صفحة كتبها المؤرّخ أمين الريحاني في الطبعة الأولى من "ملوك العرب"، ولكنّ الرقابة حذفتها في الطبعات اللاحقة المتداولة حاليًّا في المكتبات.

II. الظروف التاريخيّة والأسباب غير المباشرة.
بعد الجور الكبير الذي فرضه المماليك على المنطقة، ومع وصول العثمانيّين، كان للبنان نوعًا من الإستقلال الذاتيّ والحكم المحلّيّ. وقد عانى "لبنان الصغير" من جرّاء أشكال الحكم المتعدّدة التي فُرضت عليه في تلك المرحلة، وذلك لأنّها قامت على الخوف من الآخر والتسلّح حذَرًا منه والتقوقع في مناطق ذات طابع دينيّ ومذهبيّ حفاظًا على الوجود. ولّدت أشكال الحكم هذه روحًا طائفيّة وتبعيّة إقليميّة، وأدّت إلى أزمات وفتنٍ وحروب داخليّة وخارجيّة، وإلى خسائر فادحة كان أشهرها نكسة 1860 كنتيجة حتميّة لنظام القائمقاميّتين، والحصار والتجويع الممنهج خلال الحرب العالمية الأولى التي أودت بثلثَي أهل البلاد خلال أقلّ من خمس سنوات. لم يكن جور العثمانيّين السبب المباشر الأوحد للمجاعة هذه، بل أيضًا نظام المتصرّفيّة بحدّ ذاته، بكلّ ما فيه من طائفيّة وانعزال، وقبول بالحاكم الغريب لأسباب محض دينيّة هو الذي ضخّم حجم الخسائر.
فتشكَّلت على أثر ذلك، ومع وشوك اضمحلال السلطنة، لدى نخبة من المفكّرين اللبنانيّين قناعةٌ تتّجه نحو مشروع وطن هو "دولة لبنان الكبير"، يقوم على تكامل وتعاضد وشراكة بين جميع أبنائه، لا سيّما بين الجبل الذي يشكّل الضمانة للأطراف المترامية والبعيدة، بما له من صمود ووحدة وتاريخ عريق، وبين الأطراف الغنيّة بسهولها الخصبة التي تحسّر عليها الجبل عندما كان في التقوقع والحصار.
مشروع الوطن هذا حضّر له الكثيرون، وفي طليعتهم البطريرك الماروني الياس الحويّك صاحب المركز المتميّز والشخصيّة الفريدة والعلاقات الواسعة والرؤية والشعبيّة. كلّ هذه ساعدته على طرح حدود لبنان في مؤتمر فرساي على الشكل التالي: مجرى النهر الشماليّ الكبير وخطّ قمم السلسة الشرقيّة. أمّا خيار البطريرك للجنوب فكان يضمّ الجليل حتّى الناصرة، يقينًا منه أنّ "حدود الإنتشار الشيعي جنوبًا هي حدود لبنان"، لما لهؤلاء من دور إلى جانب الأمير فخر الدين المعنيّ في بناء الإمارة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
لم تلقَ حدود البطريرك ترحيبًا داخليًّا، لا بل عارضتها معظم الطوائف لأسباب خاصّة بكلّ منها، وقد رأى الكثيرون في ذلك مشروعًا فرنسيًّا في المنطقة. وكان بعض الطائفيّين من الموارنة أوّل من اعترض على خيار بطريركهم، وأطلقوا إذّاك نظريّتهم الشهيرة التي ترفض "لبنانَ كبيرًا يكون فيه الموارنة صغارًا!". ومن بين الموارنة الذين رفضوا استقلال لبنان وانفصاله عن سوريا شقيق البطريرك نفسه "سعدالله الحويّك" الذي كان من عداد الذين قبض عليهم غورو بتهمة تقاضي الرشوة من قِبَل فيصل مقابل المطالبة بانضمام لبنان إلى مملكته. وأهل جبل عامل أيضًا رفضوا أن "يبتلع جبلُ لبنان جبلَ عامل"، ومن بين أسباب هذه العلاقة السيّئة بين جبل لبنان وجبل عامل حكم الأمير بشير الثاني الشهابي الذي كان قاسيًا على الأطراف. 
لم يكن هذا الخيارُ الجريءُ طائفيًّا آنذاك ولا تبعيًّا، بل كان يطمح إلى بناء وطن حيويٍّ يعيش فيه أبناءَه بسلام، بناءً على كلّ معاناة أيّام "لبنان القزم" المجرّد من المدن والسهول والشطوط... فراح البطريرك يحضّر الأرضيّة لمشروعه، مشروع الوطن، إن خارجيًّا من خلال العلاقات الصلبة التي نسجها لا سيّما مع الفرنسيّين، وإن داخليًّا من خلال نشر الفكر الوطنيّ وثقافة الدولة الحديثة والشراكة مع الآخر المختلف.
(سنة 1906، رفع البطريرك الحويّك تمثال السيّدة العذراء المعروف عالميًّا بـ"الحبل بلا دنس" فوق تلّة حريصا. اللافت هو تسمية "سيّدة لبنان" التي أطلقها على المزار قبل سنوات ممّا سُمّيَ فيما بعد "دولة لبنان". قد تندرج مبادرة التسمية هذه من بين المبادرات الكثيرة التي قام بها الحويّك من أجل نشر وعي وثقافة وطنيّين لدى الرعيّة تحضيرًا للبنان الكبير.)
في 26 حزيران 1919، حمل البطريرك الماروني كلّ هذا الإطار في قلبه وفكره وتوجّه نحو مؤتمر فرساي الذي عقده الحلفاء المنتصرون في الحرب العالميّة الأولى بهدف "إعادة ترتيب حدود الدول والأنظمة على مقاييس علميّة وسكّانيّة"، وكان في خلفيّة المؤتمر إتّفاقيّة سايكس - بيكو الشهيرة.
إصطدم مشروع البطريرك خلال المؤتمر مع تلاقٍ واتّفاق ضمنيّ بين مشروعَين متزاوجَين: مشروع حاييم وايزمان والوفد اليهودي الطامع بتأسيس كيان مستقلّ في الشرق من جهة، ومشروع الأمير فيصل الذي كان يرأس الوفد العربي والراغب بقيام مملكة عربيّة واسعة تضم الجزيرة العربيّة والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين من جهة ثانية. تقضي المصلحة المشتركة أن يكون الكيان اليهودي جزءًا من مشروع فيصل يتمتع بإستقلال ذاتي، معتبرًا وجود اليهود في فلسطين عامل تطوير لما يملكون من علم وخبرات تفتقر إليها مملكته المزعومة، وأطلق هنا قوله الشهير: "طبعًا نرغب بعودة اليهود إلى فلسطين، سيستقدمون معهم العلماء والأميركيين لإحياء أرض قاحلة صحراوية بما لهم من علم وخبرات، سنحوّل معهم هذه الصحراء التي صنعها العرب إلى حدائق خضراء وسنستعين بهم في مملكتنا لتزهر الأرض كما في السابق." وما ذلك إلاّ صدًى لما كان والده الشريف حسين قد عبّر عنه في السابق بقوله: "عودة المنفيين من اليهود لأرضهم سيكون درسًا في الإنسانيّة، ويعطي نتائج باهرة على كل الصعد في التجارة الصناعة والإقتصاد. بسواعد اليهود وخبرتهم، ستعود الحياة لهذه الأرض الفقيرة في فلسطين، التي لا تسطيع الحفاظ على أبنائها."
لقيَ هذا التحالف العربيّ-اليهوديّ دعمًا بريطانيًّا، لا سيّما وأنّه يحضّر لقيام مملكة في الشرق على تناغم مع الملكيّة البريطانيّة. وسارت الآراء بالإتّجاه التالي: ضمّ لبنان كلّيًّا لمملكة فيصل، وضمّ الجنوب اللبنانيّ إلى الكيان اليهودي.
هنا يكمن دور البطريرك الحويّك خلال المؤتمر، من خلال شبكة التحالفات التي نسج، حيث استطاع انتزاع وعد بقيام لبنان بحدود واضحة في الشمال والشرق، ولا يبقى إلاّ ترسيم الحدود الجنوبيّة لاحقًا، ولكنّ الأمور كانت تتوجّه صوب أن تكون هذه الحدود شمالي صفد.
لم توافق "مملكة" بريطانيا على هذا المنطق، وحتّى فرنسا لم يكن من مصلحتها أن تنحاز لفريق البطريرك، بل حاولت أن تكسب رضى بعض الزعامات المطالبة بما سمّته "كونفيديراسيون" مع سوريا، ولكنّها ما لبثت أن اتّجهت بخطّ "الجمهوريّة"، إذ ليس من مصلحتها أن تقوم "مملكة" موالية للإنكليز في بلاد العرب. 
رفض فيصل، بدعم من الإنكليز، الإعتراف بما سمّاه "الكيان اللبنانيّ المصطنع"، معتبرًا إيّاه جزءًا من مملكته، ودار سباق حادٌّ بين فيصل والحويّك: لفيصل حكومة عربيّة أسّسها في بيروت، وجيشٌ، وقد التحق بجيشه الجنود العرب والسوريون الذين كانوا في عداد الجيش العثمانيّ، كما أنّ كلّ الإدارات العثمانيّة في لبنان أعلنت ولاءها له. ولا يملك البطريرك بالمقابل سوى وعد من مؤتمر فرساي!
على أثر ذلك، تدخّل الطرف الأميركيّ "المحايد" متقدّمًا بطرح إرسال لجنة تقصّي حقائق للوقوف على رأي السكّان، وكانت تلك محاولة للإلتفاف على وعد قيام لبنان في المؤتمر. إستفاد البطريرك من ذلك، طالبًا من الحكومة الفرنسية وقفَ تمدّد فيصل في لبنان وإلغاء مفاعيل قراراته بإنتظار نتائج اللجنة الأميركيّة، مكثِّفًا في الوقت عينه عمل بكركي التي لم تكن تعوّل إلاّ على البُعد الفكري من خلال نشر الوعي لدى الناس. في هذا الإطار، راح مرسَلو الكنيسة ينشرون بشارة الإنجيل والتعليم من جهة والتوعية الوطنيّة للمطالبة بوطن حرّ من جهة أخرى. وفي المقابل راح فيصل يلعب على الوتر الدينيّ والطائفيّ والقوميّ، لا اقتناعًا منه بالطائفيّة، بل سعيًا وراء توسيع حدود مملكته.

بدأت اللجنة أعمالها في حزيران 1919، وهي المعروفة بلجنة كينغ-كرين الأميركيّة. إستطلعت رأي رعايا السلطنة سابقًا عن رغبتهم وشكل الحكم الذي يريدونه. حاول فيصل عرقلة نشر أعمال اللجنة لأنَّها جاءَت رافضة كلّيًّا لقيام كيان يهودي في فلسطين. إلى ذلك، أظهرت النتائج أنّ أغلبيّة ملحوظة في سوريا وفلسطين والأردنّ مع قيام مملكة عربيّة، بينما الأغلبيّة في لبنان كانت مع قيام كيان لبنانيّ، فاتّهم فيصلُ البطريركَ بتجييش الناس، زاعمًا أنَّ أغلب المسلمين لم يشاركوا في أعمال اللجنة لأنّهم لم يفهموا تبعاتها. فقرّر الإحتكام للسلاح والترهيب، من خلال دعم العصابات وتمويلها لخلق البلبلة لا سيّما في الأطراف اللبنانيّة، بينما الحكومة الفرنسيّة منشغلة بأزمات أخرى أبرزها في جنوب تركيّا. 

في 8 آذار 1920، أعلن فيصل من دمشق قيام المملكة العربية وضم لبنان بشكل رسميّ إليها، غير آبهٍ بنصيحة الإنكليز له بالتروّي وإعطاء جبل لبنان نوعًا من الحكم الذاتي كما كان الحال على أيّام السلطنة، ودسَّ العصابات الموالية له لتقوم بأعمال شغب وترهيب في البلدات التي رفضت مبايعة الملك ودفع الجزية ورفع رايته.

بينما فرنسا ترفض الإعتراف بفيصل ملكًا، وبينما تنتظر لندن زيارته الرسميّة في حزيران المقبل لتعلن اعترافها به، انعقد في 25 نيسان 1920 (غداة مؤتمر سان ريمون) مؤتمر وادي الحجير في جنوب لبنان، ضمَّ ممثّلي القرى والبلدات الجنوبيّة الذين كانوا بشكل عام من الشيعة بإستثناء شخص واحد من آل غلمية يمثّل مرجعيون. للمؤتمر هدفٌ واحد ذو وجهان: مبايعة الملك فيصل وأطلاق مقاومة مسلحة في وجه الفرنسيين.
كان السيد عبد الحسين شرف الدين، مفتي صور، الوجه الأبرز في المؤتمر، ودعا إلى نبذ العنف والطائفيّة وتوجيه العمل المسلح ضدّ الفرنسيّين دون سواهم، وطلب من زعماء العصابات المسلّحة الموجودين في المؤتمر القسم على القرآن بالإلتزام بذلك. 
على أثر المؤتمر، عيّن فيصل أميرًا على جبل عامل، ولم يقع اختياره من بين كلّ وجهاء الشيعة وأشرافهم إلاّ على صادق حمزه، زعيم العصابة وقاطع الطرق، وبذلك رسالة تهديد لكلّ من لا يرضخ بالسرعة المطلوبة.
لم يرضَ الشيعة بالـ"خليفة" الجديد، ولكنّهم أُرغِموا على مبايعته ولاءً لفيصل. أمّا هو، ففور تسلّمه الإمارة، أرسل الرسائل إلى البلدات العاصية عليه والموالية للكيان اللبناني في بلاد بشاره (من بينها بلدة عين إبل)، موجِّهًا إليها أنذارًا أخيرًا بضرورة مبايعة الملك ورفع العلم الشريفيّ وتسليم السلاح ودفع الجزية: ليرة ذهب عن كل ذكر بالغ. وما كان من العين إبليّين إلاّ أن "هنّأوا اأامير على سموّ مقامه الشريف، وأبلغوه أنّ من يمثل دولة لبنان موجود في صور وعليه الكلام معه" وذلك بإشارة واضحة إلى مقررات عصبة الأمم بالانتداب الفرنسيّ على لبنان. 

وفي صباح الخامس من أيّار، يوم المجزرة عينه، حصل اجتماع في النبطيّة بين الكولونيل نيجر ممثل الجنرال غورو، وزعيم جبل عامل كامل الأسعد، العضو السابق في المجلس العثماني، وقد تدارسا كيفيّة تطبيق مقرّرات "سان ريمون" والإنتداب الفرنسيّ على لبنان وسوريا ومسألة الأمن في المنطقة والعصابات الرافضة لكلّ المشروع.
وقد أعرب الجنرال غورو خلال اللقاء رغبته بتعيين كامل الأسعد واحدًا من بين مستشاريه، على أن يتشكّل حرس وطني عامليّ لنشر الأمن في المنطقة، ولإنهاء المقاومة العامليّة.

III. الأسباب المباشرة.
عند سرد البعض لأحداث عين إبل 1920، يراودنا انطباع وكأنَّها قصّة هجوم الجوار الشيعيّ على بلدة عين إبل المسيحيّة. والحال أنّ الحقيقة غير ذلك، فالعلاقة بين مسيحيّي عين إبل وشيعة الجوار لم تكن عدوانيّة، وكان فيها من الطبيعيّة ما في كلّ علاقة جارَين: قد تمرّ بأزمات عابرة، ولكنّ أيّ أثر لعداء متبادل أو لرغبة بالقتل والإنتقام لم تكن موجودة، بل على العكس، تلقّت عين إبل العديد من رسائل التطمين وحسن الجيرة في تلك الفترة من أطراف متعدّدة.
لذلك قد نرجّع سبب هذه المجزرة إلى أحد هذه الأسباب أو بعضها، أو إلى الظروف الناتجة عنها مجتمعة:
رغبة عصابات فيصل في تطويع الخارجين عن الطاعة له وترعيبهم، لا سيّما وأنّ عين إبل لم تكتفِ برفض الإنصياع لمملكته، إنّما ساعدت دبل وسائر بلدات الجوار على المقاومة والصمود والسير نحو لبنان الكبير.
إرسال رسائل إلى الفرنسيّين عبر من يمثّلهم في الجنوب ممّن يتبنّون مشروع الإنفصال عن فيصل.
قد تكون هذه المناوشات ذريعة بيد بعض الزعامات الشيعيّة للتخلّص من الإنتداب الفرنسيّ من جهة وللقضاء على الزعامات المحلّية الأخرى من جهة ثانية، من خلال استجلاب غضب الفرنسيّين عليهم.
وقد تكون تلك مكيدة فرنسيّة للتخلّص من العصابات ومن فيصل الذي هو وراءها. هذا الرأي يدعمه من يؤكّدون أنّ الفرنسيّين هم الّذين مدّوا العصابات المهاجمة بسلاح أكثر بكثير من الذي مدّوا به العينبليّين.

IV. مجريات الأحداث.
بعد المشاكل التي جرت في أرجاءِ بلاد بشاره بسبب العصابات، حمل شباب عين إبل السلاح، وكان لهم طرق حراسة منظّمة، خوفًا من العصابات التي انتشرت أخبار رعبها في كلّ المنطقة. وكان قد وصل إلى يدهم 200 بارودة من مخلّفات الأتراك، مع بعض الذخيرة القليلة. كان ذلك عبر الفرنسيّين الذين رفضوا إرسال قوّة إلى الجبل تاركين الأمن على عاتق الأهالي.
صباح الأربعاء، في الخامس من أيّار 1920، لاحظ السكان تجمّعًا لعدد كبير من المسلّحين في الجهة الغربيّة للبلدة. فتوجّه وفد من الأعيان إلى بنت جبيل، مرجع قرى الشيعة في تلك الناحية وعميدتها، للسؤال عن الموضوع، فتلقّوا تطمينًا أنّ ما هؤلاء إلاّ حجّاج في استراحة، فعاد الرسل مطمأنّين ثمّ تبعهم كتابٌ من أحد الذوات في بنت جبيل يزيد القوم سكينة وإطمئنانًا، معلنًا فيه سهر كامل بك الأسعد على أمن أبناء جبل عامل على إختلاف مذاهبهم.
وما إن كان الظهر حتّى انهال إطلاق النار على البلدة من الجهة الشمالية أوّلاً، وما لبثت الجموع الكامنة منذ الصباح في الجهة الغربية أن بدأت تزحف نحو عين إبل مباغتةً الأهالي في أشغالهم، ووافتها قوافل منظّمة من كلّ صوب، يحمل بعضهم شارات السلم وأخذوا يصرخون ألاّ تجعلوا سببًا للعداء. وتقدم المهاجمون على أثر تلك المكيدة نحو القرية وحاصروا الأهلين فيها وبدأت المعركة. وأخذ الأهالي من رجال ونساءٍ يقاومون بحماس وشجاعة وكانت قواهم متفرقة في جهات القرية الأربع وفي خارجها. ولم يكن عدد المهاجمين يقلّ عن ستّة آلاف، مقابل حوالي 300 مقاتل عينبلي.
هرب الكثيرون إلى دير الراهبات الذي غصّ بالأهالي المذعورين، فراحوا يتوقّعون الموت في كل لحظة، مغالبين الخوف أحيانًا باللجوء الى الصلاة يحثّهم عليها خوري عين إبل طانيوس صادر وخوري دبل طانيوس اسحق والراهبات الأربع: كليمنتين من حلب وأنستاز من بغداد وسلستين من غزير وبرباره من عين إبل.
وعند الساعة الرابعة بعد الظهر دخل المهاجمون القرية من جهتها الشمالية وقتلوا كلّ من وجدوا في طريقهم: خمس عشرة امرأة مع أطفالهنّ قُتِلنَ معًا في ملجأ، وأربع سيّدات مع أطفالهنّ الستّة قُتِلنَ داخل كنيسة سيّدة عين إبل، وغيرهم الكثر. وأضرموا النار في البيوت فتصاعد الدخان الكثيف في الفضاء وهلع سكّان عين إبل حالما أيقنوا أن العدوّ استولى على قسم من بلدتهم، وأيقنوا أن لا وسيلة للنجاة ولمقاومة تلك الجماهير العديدة ولا وسيلة تنقذهم من المذبحة سوى الفرار، فحوّلوا قوّتهم وما بقي معهم من ذخيرة إلى الجهة الجنوبيّة ليفتحوا أمامهم منفذًا للهرب نحو فلسطين. غادر الأكثرون القرية ترافقهم الأخت برباره العينبليّة لخدمة المصابين بينهم، وبقي البعض من أطفال وشيوخ ومرضى وعجّز مختبئين في دير الراهبات وفي بيوت البلدة وقد هلك أكثرهم بطرق مشينة، وكأنّ المهاجمين كانوا متعطّشين لسفك دماء الأبرياء.
وقد عوّل بعض الأهالي المشهورين بحسن علاقاتهم مع جيرانهم الشيعة على عهود الصداقة والإخاء القديمة، فرفضوا ترك بيوتهم، مثل بيت الخوري المشهورين بعلاقاتهم الوثيقة مع آل بزّي في بنت جبيل منذ أكثر من ستين سنة، وكانوا يدعون بعضهم أخوة وأولاد أعمام. فدخل محمود جابر بزّي أثناء المعركة إلى بيت مارون الخوري وأخته مجيده يتلطّفهما ويتودّد إليهما. وما إن تمكّن من مخبأ الأموال في البيت، حتّى التفت إلى ابنه عقيل قائلا له: يا ابني أسرع واذبح عمّك وعمّتك.
حوالي العاشرة ليلاً، دخل المهاجمون دير الراهبات اللواتي هربن من باب خلفيّ، وتُرِكَت البلدة للنهب والتكسير والتحريق وإهانة المرضى والرموز الدينيّة...

V. النتائج وردود الفعل
في ذلك اليوم مات من أهل عين إبل عدد كبير، منهم مات على الجبهة ومنهم جرّاء القصف، ومنهم العدد الأكبر من المرضى والمقعدين ماتوا في بيوتهم بعدما دخلها المهاجمون، وضاع من هرب في الأسقاع الفلسطينيّة، وعانوا ما عانوه، وقد بلسم جرحهم في حيفا احتضان المطران غريغوريوس حجار والمنسينيور فرنسيس الخوري، النائب الأسقفي في صور. واللافت أنّ الحاكم البريطاني رفض المساعدة بعدما رفض العينبليّون كتابة تقرير حول عدم استقرار الأوضاع في بلادهم، ورفضوا ذلك حرصًا على الفرنسيّين.
وبعد أسبوعين، أرسل الفرنسيّون بعض الدوريّات للتحقّق من الأمر، فوجدوا الحال مذرٍ في البلدة، وأرسلوا حملة للإقتصاص من المجرمين في تبنين، ولكنّ الحملة لم تلقَ مقاومة، وهرب أهالي تلك النواحي بدورهم أيضًا إلى فلسطين. وأعلن الكولونيل نيجر فرض غرامة على الشيعيّين في جبل عامل قدرها مائة ألف ليرة عثمانيّة وحكم الإعدام على نحو أربعين من زعماءهم الذين كانوا قد لجأوا بأجمعهم إلى فلسطين. وأخذت الحكومة تجمع الغرامة بإستدعاء الرؤساء اليها ووضع المسؤلية على كل منهم بجمع المال من أهل قريته. وما مرّت بضعة أسابيع حتى دفعت القيمة كاملة. أما المحكومون إعدامًا فما لبث أن صدر عنهم عفو بعد التزامهم الكيان اللبنانيّ، ومنهم من أصبح فيما بعد وزراء ونواب. 
وكان بعض أهالي عين إبل يتفقّدون البلدة خلسة في الليل، ويدفنون ما يعثرون عليه من جثث موتاهم، وراحوا يتسرّبون إليها عائلة تلو الأخرى منذ أوائل حزيران، وكانت البيوت احترقت والمقتنيات والأثاث والمواشي نُهبَت.
وقد أحصى خوري الرعيّة آنذاك 42 قتيلاً، أكثرهم من النساء والشيوخ الذين لم يستطيعوا إلى الهرب سبيلاً، ولكنّ الإحصائيّات الأكثر دقّة فيما بعد تلحظ أكثر من ذلك بكثير.
لم يتبنَّ أحد المجزرة، بل على العكس، استنكرها الكثيرون، وأوّلهم كامل بك الأسعد الذي قال بعد أيّام قليلة من وقوع المجزرة: تأكّدوا أنّ المساكين الشيعة غير المحظوظين فقدوا شرفهم إلى الأبد مع الأعمال المجرمة التي قام بها ضدّ الإنسانيّة والشرف بعض المجرمين الذين اتّفقوا مع عصابات، وأضاف: حقيقة إنّ أهالي عين إبل وجوارها قد فقدوا من ممتلكاتهم وأرواحهم لكنَّ خسارة الطائفة الشيعيّة لشرفها هو أعظم وأدهى!

على صعيد أوسع، وفي إطار مؤتمر سان ريمون يوم السابع من أيّار، خرج نوري باشا مبكرًا من الإجتماع، فسُئِلَ عن مدى مسؤلية حكومته في أحداث عين إبل فأجاب أنه سيترك المؤتمر ويعود إلى دمشق فورًا لمتابعة ما حصل، وأنّ حكومته غير مسؤولة، وستتمّ معاقبة المجرمين. وكان ذلك آخر وجود دبلماسي للمملكة العربية قبل سقوطها النهائي بعد أسابيع تزامنًا مع قيام دولة لبنان.
وتفصيل ذلك أنّ بريطانيا، بعد مؤتمر سان ريمون، أوقفت دعمها لمملكة فيصل ولم تعترف به ملكًا، وألغت زيارته التي كانت مقررة في حزيران إلى لندن، وسهّلت حملة الفرنسيّين لإنهاء مملكته، ما اضطرّه إلى التنازل عن حكم الشام ولبنان والمملكة، وترك عسكره في ميسلون للموت، والإكتفاء بالعراق عرشًا له.
إنطلقت الحملة في 18 حزيران 1920 من صور بعد أن وصل إليها حوالي 1000 جنديّ فرنسيّ بحرًا و400 شابّ لبنانيّ قادمين من حيفا، ووصلوا الى عين إبل في 22 حزيران بعد أن أحرقوا منزل الأمير السابق "صادق حمزه" الذي أعدم لاحقًا في بيروت عام 1926.
وأيضًا أدهم خنجر، زعيم العصابة، صدر بحقّه حكم إعدام، وما لبث أن حاول اغتيال الجنرال غورو في مرجعيون وفشل، هرب على أثر ذلك إلى الأردن وراح يتنقّل في مناطق النفوذ البريطاني، ولا سيّما في المستعمرات اليهوديّة حيث أمضى ثلاثة أشهر، إلى أن قبض عليه في السويداء وأعدم في بيروت عام 1922. وقد حاول البعض أن يجعلوا منه رمزًا وطنيًّا وشهيدًا. وهو من قال فيه سلطان باشا الأطرش بعد ذلك بسنوات: "إنزلق أدهم خنجر في منزلقات الطائفيّة وكانت واقعة عين إبل بداية نهايته."

وفي 7 أيّار 1920، علّق الجنرال غورو على أحداث عين إبل وعلى كلّ ما كان يجري من محاولات عرقلة لمشروع الدولة قائلاً: إنَّ إعلان لبنان لن يتأخّر حتى عام 1925، كما كان متّفقًا ومفروضًا، بل سيتمّ في وقت سريع جدًّا. 
وحدث ذلك بالفعل في أوّل أيلول 1920 أي بعد أقلّ من أربعة أشهر على مجزرة عين إبل. 

VI. ملحق بلائحة أسماء الشهداء

جمع الدكتور جوزيف خريش أسماء الأبطال والضحايا من المصادر الموثوقة ونشر هذه اللائحة بالحرف الأجنبي عبر صفحته الإلكترونيّة  ونحن قمنا بترجمتها وعرض الأسماء بحسب التسلسل الأبجديّ. 
وقد أوردت اللائحة عائلة بعض الأشخاص، والبعض الآخر لم تورد إلاّ كنيته أو لقبه فأبقينا عليها كما وُجِدَت.

ابراهيم أيّوب خريش، ابراهيم جريس إندراوس، ابراهيم يعقوب إسحق وزوجته، ابراهيم يوسف خريش، اسعد سمعان، الياس الحدّاد، الياس عطالله دياب، الياس يوسف روكز، اندراوس عطوي، انيس مارون شباط، برباره جريس مخّول، بطرس اسكندر جبران، بطرس الياس منصور، بطرس سليم مخّول، بولس الحاج، بولس ديب الصيداوي، تقلا زوجة حنّا أبو الياس صقر، جريس ابراهيم وزوجته حلوه، جريس اندراوس، جريس رزق، جورج مسعود العبدوش، حلوه زوجة طانيوس جليله، حلوه يوسف حلوه، حنّا العبدوش، حنّا منصور، حنّا موسى مارون، حنّه الأرمنيّه، حنّه حنّا أبو الياس، خزنه أرملة الخوري حنّا وابنتها مريم، ديب الصيداوي، رهيجه دياب، روزا يوسف الديك، روفايل يوسف الحاج، سعدا يوسف موسى طنّوس، سعدى جليله، سعدى زوجة ابراهيم حلوه، سعيد روكز حنّا متّى، سليم رزق، شفيقه زوجة بطرس تقلا، طانيوس ابراهيم خريش (جدّ البطريرك خريش)، طانيوس الحاج، طانيوس بو غنّام، طانيوس جريس دلّي وزوجته ساره ووالدتها مريم أرملة ابراهيم حنّا مارون، طانيوس روكز، طانيوس يوسف، طنّوس الديك وشقيقته عفيفه، عبد الأحد متّى عتمه، عبدو العمّوري، عطالله دياب، فارس لبّس غسطين، فرنسيس طانيوس دلّي، فؤاد جرجس غطّاس، قدّيسه زوجة خليل منصور، قطر زوجة عبدالله صادر، كمال حنّا موسى دياب، لطيفه أيّوب خريش، مارون الخوري وشقيقته مجيده، مارون جلّو، مارون شباط، مارون يوسف حنّا روزا، مجيده الياس موسى، مرتا سلّوم نيصي، مريم ابراهيم مارون، مريم أرملة حنّا سلّوم، مريم بو زيد، مريم زوجة حنّا غسطين، مريم زوجة طانيوس يوسف شباط، مريم سعيد صيداوي، مريم طانيوس يوسف شباط وابنتها، مريم فارس مخّول، ملكه الياس ابراهيم خليل، ملكه الياس ابراهيم ئيصر خليل نيصي، ملكه جريس، نجمه جريس أبو زيد، نعمه مارون فاعور، وديع يوسف دلّه، وديعه شكري رزق، ورده الياس موسى، ورده أرملة حنّا مارون، ورده زوجة حنّا بطرس، ورده سمعان أبو الياس، يعقوب صابر، يعقوب طانيوس مخايل شباط، يوسف الحاجّ، يوسف اللّلّوس، يوسف حنّا الديك، يوسف دياب، يوسف طانيوس بو غنّام، يوسف مارون ناصيف.

VII. خاتمة
بينما يحثّنا تاريخنا الزاخم بالبطولات إلى عدم التواني في "تفضيل المصلحة الوطنيّة العليا فوق كلّ المصالح، واحترام منطق الدولة والدستور، وتحرير الممارسة السياسيّة من الجنوح إلى المحاصصة ودوائر النفوذ" ، الغريب اليوم، هو تحسّر البعض على أيّام الفيديراليّة السالفة، التي لم تؤدِّ إلاّ إلى الحروب والخسائر، والأحقاد والنزاعات، فلا بدّ لنا من الإقتناع النهائيّ أن لنا وطن واحد هو لبنان الكبير. وجودُنا في هذا الوطن بحدوده لم ننله مجّانًا، بل دفعنا ثمنه غاليًا طوال مئات السنين، ولن نقبل أن نكون اليوم أقلّ سخاءً ممّن ادّخروه لنا على مدّ التاريخ بدم أعناقهم.
"ألا يعلمون أن الشرف لا يسلم من الأذى ما لم تراق الدماء على جوانبه".
لا بالحسرة ولا بالبغض والإنتقام، ولا بالعبثيّة والإستسلام عبّر الخوري يوسف فرح عن نظرته للأحداث التي سرد في وثيقته، بل بهذا الإندفاع والسخاء والرؤيا. وطموحنا أن نكدّسَ، فوق ميراث الشرف الذي تسلّمناه من أجدادنا، شرفًا يرثه من بعدنا الأحفاد.