تلة الدوير وخربة شلعبون في كتاب " بعثة فينيقيا " - عين ابل من شمس أبولون الى شمس المسيح ،
تحفة التراث العين ابلي القديم ; ج- ت- خريش ،
· مقدمة: التراث واهميته في حياة الامم والجماعات
· 1-"بلاطة تلة الدوير" من متحف اللوفر - فرنسا الى مسقط رأسها - عين ابل .
· 2"بعثة فينيقيا" ، "Mission de Phenicie"،
· 3 - الدوير وشلعبون في كتاب " بعثة فينيقيا ":
· 4- العثور على تحفة الدوير في متحف اللوفر ، محتواها وعناصرها الفنية والثقافية : الرسم والكتابة
· 5- هيكل الدوير في اي اطار تاريخي وما هي علاقته بالمسيحية ؟
·
مقدمة : تفتخر الامم والشعوب بما لدى كل منها من تراث ، لانه عنوان هويتها ، وركيزة من ركائز نموها وازدهارها. .
بالتراث وهو جزء من الثقافة تتواصل الجماعات وتستمر، وفي سبيلها ايضا تعمل وتعيش.التراث تحديدا هو مجموع الاشياء المادية المتوارثة وغير المادية ، الارض بما تنبت وما تحتضن . وهي أيضا القيم والافكار والفنون بما فيها خصوصا من معالم الابداع، وهي التقاليد والعادات الاصيلة التي لا تستسلم للجمود او الاستنقاع .
لبنان بثقافته وتراثه يعتبره العالم نموذجا ، برغم اوهانه العديدة. بهما استدام صورة جميلة على الرغم مما يعتريه من بشاعات مؤقتة تزول –إن شا الله - مع زوال اسبابها الخارجية والداخلية.
وما يقال عن الوطن يقال أيضا عن المدينة والقرية.
وقد شاء الله والتاريخ أن تقع بلدتنا عين ابل في مكان عزيز ومقدس من لبنان ، كان له في الماضي البعيد والقريب دور ليس بالهامشي البتة في ترسيخ القيم التي جعلت منه نموذجا ورسالة تحتذى بين الاوطان والدول .
تراث عين ابل وثروتها: الارض ، البيئة ، الاثار ، طرق العيش والسكن ، تناقل المعرفة والخبرة ، التاريخ، الوجوه ، العادات الجميلة، حب الحياة، الضيافة، حب المعرفة، والعيش بسلام وحرية.
من هذا المنطلق كان لا بد من تفكير حول هذا التراث الجامع والموحد ، في زمن ينتابه – كما ينتاب الوطن كله - العديد من الاضطرابات . تفكير ينفتح على مشاريع ملموسة وذات تأثير منتج في النفوس والواقع البيئي البشري والجغرافي معا.
كيف نحافظ على هذا التراث ونعمل على تفعيله ونقله الى الاجيال لكي يظل حيا ومؤثرا
١ - "بلاطة تلة الدوير" من متحف اللوفر - فرنسا الى مسقط رأسها - عين ابل .
تعلمون ان دار بلدية عين ابل في ٢٢ تشرين الاول ٢٠١١ ، استقبلت تحفة اثرية نادرة، نقلت اليها مباشرة من متحف اللوفر- باريس .
واودعت مؤقتا في احدى غرفها بانتظار ان تعرض بصورة اكثر علنية في احد مواقع البلدة لتكون امام انظار الجميع شاهدا بارزا على تراث عريق يعود في اجلى واجمل صوره الى حوالي١٨٠٠ سنة .
ماذا تحمل " بلاطة تلة الدوير" من رسوم منحوتة في الصخر ومن كتابة ، الى اي زمن تعود بنا وما هي الظروف التاريخية السياسية والاجتماعية التي أنشئت في اطارها ، اي معان ودلالات ثقافية تنطوي عليها؟
في اي ظروف ، كيف ولماذ تم نقلها الى فرنسا ، وكيف تم الحصول على نسخة طبق الاصل عن القطعة الام ؟
اسئلة نحاول الاجابة عنها بايجاز في هذه الورقة .
٢- "بعثة فينيقيا" ، Mission هو عنوان مشروع ثقافي فرنسي على غرار مشروع نابوليون للتنقيب عن الاثار المصرية بعد الثورة الفرنسية في مطلع القرن التاسع عشر.
وان تكن فكرة مشروع التنقيب عن الاثار الفينيقية في لبنان والمناطق المجاورة له قد نشأت في الاوساط السياسية والاكاديمية الفرنسية قبل تاريخ نشوب الاضطرابات الاجتماعية والامنية في لبنان عام ١٨٦٠، الا انها تزامنت معها ، وتحققت في اطار الحملة التي نظمتها فرنسا من اجل وقف نزيف الدماء في لبنان وسوريا والتي راح ضحيتها حوالى ١٧٠٠٠ نسمة معظمها من ابناء الطوائف المسيحية.
مثلما تم تعيين الجنرال بوفور على رأس الفريق العسكري في تلك الحملة تم كذلك تعيين العالم والفيلسوف جوزف ارنست رينان على رأس فريق علمي اركيولوحي. انطلقت البعثتان وانتهتا متزامنتين بين خريف ١٨٦٠ و١٨٦١. خلاصة تلك البعثة العلمية جُمعت في مجلدين ضخمين صدرت الاجزاء الاولى منهما ابتداء من ١٨٦٤.
- ما يهمنا في هذا الاثر الجامع لأبرز الاثار الفينيقية التي اكتشفها او القى الضوء عليها العالم رينان هو ما يتعلق بما تركه لنا من مشاهدة ووصف للمعالم الاثرية التي عثر عليها في ارض عين ابل، وتحديدا في موقعين اثريين بارزين هما : "تلة الدوير" الواقعة شمال غرب خراج البلدة وعلى مسافة كيلو متر من مركزها، و"تلة شلعبون" الواقعة على يمين مدخل عين ابل من جهة بنت جبيل فوق البركة الزراعية المعروفة بهذا الاسم من جهة اخرى .
- زيارة رينان الى عين ابل جرت في ربيع ١٨٦١، حيث كان يرافقه عدد من المنقبين والرسامين . ويبدو صريحا انه التقى بعض ابناء البلدة ولا سيما كهنتها الذين لفتوا انتباهه الى اسم " شلعبون " الوارد في الفصل التاسع عشر من سفر يشوع بن نون من الكتاب المقدس . الجدير ذكره ان تاريخ يشوع بن نون يعود الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. يحدد رينان موقع عين ابل في المنطقة التي يسميها " اطراف فينيقيا " ، "بلاد بشارة "، او " ريف صور "، متوقفا في مقدمته وفي متن كتابه على وصف حسن العلاقات بينه وبينه الأهالي، وعلى نيله موافقة السلطة العثمانية ورضى رؤساء الطوائف والاهالي دون استثناء في ما يتعلق بإجراء بعثته، حتى يزيل عنه كل تهمة بسرقة الاثار ونهبها ، كما قيل عن البعثة التي نظمها نابوبليون في مصر .
يمكن القول ان خسارة البلدان الشرقية لمعظم تراثها وتشتته تعود بالدرجة الأولى الى ظروف الاحتلال والاستعمار ، ولكن ايضا الى اهمال التراث وانقطاع التفاعل الحي معه من قبل اهله، السلطا ت الحاكمة والمؤسسات الثقافية و السكان المقيمين .
.٣ - الدوير وشلعبون في كتاب " بعثة فينيقيا ":
في متن كتابه الضخم وألواح الرسوم ( planches ) المرفقة به خصص العالم رينان ٤ صفحات لوصف ما عاينه في كل من الدوير وشلعبون. ومن أهمه :
- في الدوير : - بقايا معبد وثني ولوحة منحوتة في الصخر الكلسي الابيض كانت تشكل جزءا من نصب تذكاري تعود لشخصيتين من وجهاء المنطقة بين اواخر القرنين الثاني او الثالث الميلاديين.
كما شاهد بركة وعددا من الابار المنقورة في الصخر كانت تستعمل لتخزين المياه وحبوب المؤونة.
- في شلعبون : اقبية وبناء مربع وابار مشابهة لتلك التي شوهدت في الدوير ، ومدافن او نواويس تعود الى امراء من السلالات العربية الرومانية، ولا سيما الغساسنة ، وكانوا على المذهب المونوفيزي، حلفاء روما وبيزنطية احيانا وخصومهما احيانا اخرى. الى جانب هذه النواويس لا بد ان عاين رينان رموزا منحوتة في الصخر شبيهة بشعار الامبراطور قسطنطين الكبير ، مطلق الحريات الدينية عام ٣١٣ واول امبراطور روماني ايد علنا الديانة المسيحية ، اذا استثنينا سنوات قليلة من حكم الامبراطورين الاب والابن فيليبوس العربي في اواسط القرن الثالث ( ٢٥٠-٢٥٤) .
ومن جميل الصدف التاريخية ان اجدادنا العين ابليين ادرجوا احد تلك المعالم الأثرية في أعلى جدار "كنيسة السيدة" عندما شرعوا في بنائها عام ١٨٦٦ واكملوها عام ١٩٠٧. وتلك الشارة التاريخية تظهر للعيان فوق الباب الغربي للكنيسة على شكل بلاطة مستطيلة ملساء لا يزيد طولها عن المتر . نُقش فيها رسم ثلاثة رماح متصالبة قد تمثل مختصرا بالمقارنة مع رسوم ونقوش من العهد القسطنطيني ، للفظتين باللغة اللاتينية او الرومانية : Pax Christi ، اي سلام المسيح ، كما تمثل الحرفين الأولين باليونانية من اسم السيد المسيح .X.P.
- كان قسطنطين الكبير قد اعلن قبل استلامه السلطة ، اتخاذه من هذه العلامة شعارا عندما راها في حلم ، وسمع صوتا، قبيل معركة حاسمة كان عليه ان يواجه فيها خصومه، يقول له : "بهذه العلامة تنتصر". ومنذ ذلك التاريخ اي ٣١٣ ميلادية بدأ الاعتراف بحرية المعتقد والدين في الدولة الرومانية ، كما راحت الدولة المسيحية تشق طريقها الى الوجود .
- لعل اهم ما عاينه الباحث رينان في شلعبون هو " قبو" يشبه الى حد كبير المدفن الذي نقرأ عن بعض خصائصه الهندسية في النصوص الانجيلية المتعلقة بالمدفن الذي وضع فيه جثمان السيد المسيح بعد انزاله عن الصليب . لقد جاء في النص الانجيلي على لسان النسوة اللواتي أتين لزيارة القبر : " من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر... وكان كبيرا جدا" ( مرقس ١٦: ٣-٤) . يعتبر رينان ان المدفن الذي رآه في شلعبون هو من المدافن التي تعطي اقرب ما يكون من صورة عن مدفن السيد المسيح . قال :
"Ce caveau parait de ceux qui peuvent le mieux donner l'idée du tombeau du Christ"
Mission de Phénicie, page 679) )
3- العثور على تحفة الدوير ، محتواها وعناصرها الفنية والثقافية :
3-1 - في احد ايام ربيع ١٨٦١، وبعد جولة في شمالي لبنان وارواد ، قدم ارنست رينان الى عين ابل من الجهة الجنوبية ، يرافقه عدد من معاونيه الفنيين والمترجمين ، معرًجين على نقاط التنقيب عن الاثارات الواقعة عند السواحل والجبال اللبنانية الجنوبية وفي منطقة الجليل الفلسطيني، واهمها قائم في خراب صور وام العواميد وقانا، وقنيفذ .... ففي الدوير شاهد بقايا قسم من هيكل وثني تقع عند بوابته قطعة صخرية ضخمة من الطراز الجيد الشبيه بطراز القطع الاثرية التي كان قد شاهدها في ام العواميد قرب الناقورة . وهي ذات سبائك عريضة ونافرة قليلا مع خدود داخلية على جانبي البوابة.
Elle est d'un bon style, de peu de saillie, analogue a celle dOum el Amad, Il y a une rainure intérieure dans les jambages a moulures plates.
اضاف: " وسط هذا الركام يوجد كتلة صخرية ضخمة مكعبة ، تحمل على مسطح من مسطحاتها رسما منحوتا وكتابة . عرض عليَ البناؤون والحجَارون من أبناء عينبل ( هكذا يكتبها بالعربية وبالفرنسية Ainibl) ان يفصلوا لي الواجهة المنحوتة ويجعلوها على شكل بلاطة قليلة السماكة حتى يمكن نقلها على ظهر جمل الى ( مرفا ) صور" ، من حيث يتم شحنها من هناك على متن بارجة فرنسية كانت قد وضعتها الدولة الفرنسي بتصرف " بعثة فينيقيا " تمهيدا لنقلها الى متحف اللوفر - باريس. يتابع رينان الرواية فيؤكد ان ابناء عين ابل " قاموا بمهارة نادرة بتنفيذ تلك العمليتين - ( الفصل وتقليص السماكة) بالرغم من انهما شاقتان جدا . وهذا الاثر هو الان في اللوفر حيث يشكل ، على ما اظن ، اغرب نموذج في حوزتنا حتى اليوم ، حول العبادات ( الوثنية ) السورية " . لعل كتابة اسم عين ابل هكذا ( عينبل ) والاشارة الى كونها قرب صور حمل بعض الباحثين الى الوقوع في الالتباس بين عين ابل عينبل وعينبعال الواقعة بالفعل قرب صور. غير ان الاشارة في النص الى محازاة شلعبون والدوير وتحديد هوية أبناء عين أبل المسيحية أزالت كل لبس حول مصدر اللوحة الحقيقي.
وضع للوحة الدوير رسم خاص تحت الرقم : (Planche LVII,figure 3) في المجلد الذي خصصته البعثة لمجموع اللوحات التي تم العثور عليها خلال عمليات التنقيب في " بعثة فينيقيا" . اما مقاييس التحفة كما وجدت في متحف اللوفر فهي 110 سنتم ارتفاعا ، و 117 عرضا و7 سماكة. غير انها كانت اكثر من ذلك عندما عثر عليها في الدوير. يبدو انه قد تم ترتيب حجمها مرة اخرى في اللوفر لتثبت على ما انتهت عليه حاليا من حيث الشكل والحجم بالأضافة الى الركيزة المعدنية التي تقوم عليها كما يشاهد في الصورة.
3- 2- الرسم والكتابة :
----------------------
الرسم الذي تحمله بلاطة الدويرهو كناية عن شكل هندسي مستطيل تتوزع خطوطه توزيعا متناسقا ومتوازيا - symétrique- بين مستويين عموديا وافقيا .
في المستوى الاعلى الافقي الايمن رسم نصفي لقامة الالهة ارتميس او ديانا تكلل رأسها هالة تمثل كوكب القمر. تظهر وهي رافعة بيدها اليسرى مشعلا ، اشارة الى دورها منيرة وحامية للنساء الفتيات وبخاصة الحاملات منهن ، بالاضافة الى دور آخر لها كالهة للصيد، باعتبار النشاط الزراعي الى جانب الصيد هوالأبرز والمصدر الرئيسي من مصادر العيش في المنطقة. تقف أرتميس وراء ثور ضخم الجثة يقف بدوره على ثلاث قوائم فيما تشير الامامية منها ، من جهة الناظر اليها، الى حالة من الحركة، دليلا على الحيوية التي يتمتع بها. تعبرعن تلك الحركة تعبيرا واضحا وملفتا عينا الثور المحدقتان الى الناظر .
في المقابل ومن الجهة اليسرى يقف الاله أبولون ، كبير مجمع الالهة في الميثولوجيات المتنوعة، الرديف أو المساوي لزفس وجوبيتر والبعل ، في مشهد نصفي ، فيما تظهر حول رأسه شعلة من كوكب الشمس ، في مقابل هالة القمر المحيطة برأس ارتميس . بيده اليمنى صولجان السلطة الملوكية . يرتدي كما ترتدي ارتميس عباءة مثبتة فوق كل كتف بكتلتين مستديرتين . أمامه يقف ثور شبيه بثور الجهة اليمنى شكلا وحركة ، مع فارق الزخرفة التي تزين الدائرة المكوّنة من التفافة ذنب كل من الثورين باتجاه الظهر. داخل دائرة ذنب الثورالايمن رسم شعلة لولبية وكوكبية ، وداخل دائرة ذنب الثور الايسر رسم وردة . وراء هذين الشكلين يقرأ بعض مفسري الرموز الميثولوجية علامات فلكية - Cosmique Astrale - .في قراءة اعمق واكثر تجريدية لمعاني ورموز اللوحة ، يرى البعض لا رسما لأبولون وارتميس بحد ذاتهما فقط ، بل ايقونة لتكريم الشمس والقمر، وذلك بالنظر اليهما كعنصرين من عناصر الطبيعة والعبادات المتصلة بالكوكبين الكبيرين بين الكواكب ( الشمس والقمر) ، في اطار الحضارات التي نشأت و تعاقبت في مناطق الشرق الاوسط ، في ما بين النهرين - Mesopotamia - وبلاد كنعان على طول سواحل البحر المتوسط ومناطقها الداخلية .
- اما العنصرالمركزي الذي يتوسط اللوحة ، شجرة النخيل ، ويحتل موقع الصدارة من الرسم المحفور في الصخر ، فانه يشكل ايقونية مركزية ، ورمزا من رموز بلاد كنعان . هذه التسمية ( كنعان ) ترجمها اليونانيون الى " Phonics"، وعنهم انتشرت وساد تداولها حتى اليوم . اللفظة تحمل اكثر من دلالة واحدة .
أ- تعني النخيل ، اولا . كان منظر شجر النخيل اول ما يلفت نظر اليونانيين عندما تطل عليهم شواطئ كنعان في الجهة الشرقية للبحر المتوسط . لذل اطلقوا عليها تسمية بلاد النخيل . والنخيل شجر مقدس في قواميس العربية القديمة .
ب - تعني اللفظة اللون النحاسي ، نظرا للون بشرة بحارة بلاد كنعان .
ج- تعني لون البرفير ( الارجوان ) المستوحى من لون مادة لزجة كان يستخرجها أبناء صور من صدف البحر ، وبها يصبغون الاقمشة الفاخرة الخاصة بالاباطرة والملوك. اللون الارجواني هو عينه لا يزال كرادلة الكنيسة الكاثوليكية ، امراؤها ، يعتمدونه الى اليوم . –
د- تعني اللفظة ايضا طائر الفينيق الاسطوري الذي له مع كل زمن جديد قيامة وحياة جديدة.
- رسم شجرة النخيل كان ينقش على موازين ( et mesures poids ) حاضرة صور في العصر الروماني . لا غرابة ان تحتل النخلة مركز الرسم المنقوش في لوحة الدوير ، لأنها شجرة مقدسة لها من ارتفاعها بين ثوري البقر اكثر من دلالة على معاني الخصب والعطاء والخلود.وهي كشجرة الارز بالنسبة لجبال لبنان غنية بالمعاني .
إن مشهد النخلة وهي محاطة بزوج من الثيران يعود في الفنون العبادية الى زمن قديم من الألف الثاني قبل المسيح .
الى ذلك تجدر الملاحظة الى أن النخلة المنقوشة في الصخرة هي هرمية الشكل ، تجانسا ربما مع هرم النصب التذكاري الذي تزدان به قاعدته، فيما تظهر بارزة آثار اصول سعف النخيل المقطوعة من الجزع من أسفل الى أعلى دلالة على مرور الزمن ، تاركة مكانها أشكالا شبيهة بقشور السمك . ومن اعلى النخلة يتدلى عنقودان ( قطفان ) من عناقيد البلح ، بما يوحي بالمنظر التقليدي والوطني ، ان صح التعبير ، الذي انطلق منه اليونانيون ليطلقوا على سكان المنطقة اسم "فينيقي" أي اهل النخيل ، كما بينّا في المقطع السابق .
راجع:
Catalogue : Annie Caubert et Elizabeth Fontan et Eric Gubel Art cf phénicien : La sculpture de tradition phénicienne, Musée du Louvre, Département des Antiquités Orientales, RMN, Paris, 2002,Snoek,Gand 2002,page 125,
3 - 3- الكتابة : تحمل اللوحة ، التي كانت تزين قاعدة النصب التذكاري الهرمي الشكل في محيط هيكل ابولون فوق تلة الدوير ، كتابة منقوشة باللغة اليونانية ، وذلك تخليدا لذكرى اشخاص وجهاء مرموقين في محيطهم عاشوا في المرحلة الزمنية المتراوحة بين تاريخين حسب مراجع رينان ومتحف اللوفر.( ١٩٥ و ٢٩٥ م . ) .
تأرجحت نتائج الباحثين ( وخصوصا ارنست رينان و كاتولوغ اريك غوبل وآخرين ومتحف اللوفر ) في تحديد اي هذين التاريخين هوالاقرب الى الحقيقة . يلاحظ ان الكتابة التي حفرت في لوحة الدوير تقسم الى قسمين . قسم يقع في الاطار الاعلى للوحة والآخر في المساحة المنبسطة بين جانبي الشجرة .
الكتابة العليا وجد الباحث الفرنسي صعوبة في قراءتها كاملة ، الا انه بعد جهد انتهى هو وغيره من الباحثين في متحف اللوفر الى الصيغة التالية : " الى الأله ابولون .... مثال ابن سلمان ، وكيل هيراقليط قائد الفرقة السادسة ، قدّم المدخل ، إتماما لنذر ، من أجل خلاص أبنائه "
وفي الكتابة الثانية على جانبي رسم النخلة : " سنة 321 في 16 من شهر بانيموس " ، حسب التقويم السنوي الصوري . هذه القراءة الحديثة لكتابة الدوير كان قد سبقتها قراءة من قبل رينان منذ الطبعة الاولى لكتابه " بعثة فينيقيا. يذكر فيها : "سلمان وهيراقليط هما الابنان اللذان يبدو ان النصب التذكاري قد وضع من أجلهما " ( من صفحة 675 الى 680) . وفي رأي آخر مكمل أن " واهب التذكار هو ابن وكيل قائد جيش فراتا ، المقيم في المنطقة المحازية في فلسطين في كفرقطنة من الجليل .وهو الذي قدم مدخل او بوابة المعبد الريفي في الدوير " .
وسط بقايا هذ ه البوابة طلب رينان قطع منحوتة اللوفر " .( المرجع السابق )
ولكن الباحث تردد في تحديد ما يقابل تاريخ هذا الاثر بين كل من حسابات التقويم الصوري والتقويم الانطاكي والتقويم الميلادي . لذلك جعله مرة في 195 ميلادية ومرة في 295 . ولكن مهما يكن من امر هذه المقابلة يبقى ان كلا من التاريخين المشار اليهما يشكلان محطات ذات شأن بالنسبة لتاريخ المسيحية في جنوب لبنان ، كما نحاول ان نبيّن .
4- في متحف اللوفر : وضعت لوحة الدوير في متحف اللوفر منذ وصولها الى فرنسا على ظهر بارجة كولبير حوالى نهاية العام 1861 ، واستقرت في جناح الاثار الشرقية في صالة دينون، تحت رقم ووصف :
راجع:
" Mission de Phénicie, 1860- 1861. Département des Antiquités , Référence 4877.
Description : Relief représentant Apollon et Artémis. 295 après J.C. ( 421 de l'ère de Tyr),
Dueir pres de Tyr,Liban, Calcaire »
مقاييس التحفة كما وجدت في متحف اللوفر هي : 110 سنتم ارتفاعا ، و 117 عرضا و7 سماكة. غير انها كانت اكثر من ذلك عندما عثر عليها في الدوير، قبل أن يتم ترتيب حجمها مرة اخرى في اللوفر ، لتثبت على ما هي عليه حاليا من حيث الشكل والحجم بالأضافة الى الركيزة المعدنية التي تقوم عليها .
5-1 هيكل الدوير في اي اطار تاريخي وما هي علاقته بالمسيحية ؟
التاريخان اللذان يحددهما رينان او غيره من الباحثين كتاريخ للكتابة اليونانية المحفورة على بلاطة الدوير 195 و295 م. يشكلان ، بغض النظر عن أيهما أصح ، محطتين ذات شأن كبير بالنسبة لتاريخ جنوب لبنان وبخاصة المسيحية المتنامية فيه يومذاك ، من خلال تأثيرها الديني والاجتماعي ، الفكري والفني ، ولا سيما في مدينة صور وضواحيها حيث نشأت جماعة ناشطة ومؤثرة قدمت في سنة 198 م. ، أي بعد ثلاث سنوات من تاريخ بلاطة الدوير فقط ، شهيدة - كريستينا الصورية – وهي من أبرز شهداء صور الخمسماية ( الذين تحيي الكنيسة المارونية ذكراهم في 19 شباط من كل سنة ). كان ذلك في عهد مطران صور "كاسيوس" الذي يسجل لنا التاريخ عنه حضوره مجمعا كنسيا في فلسطين للبحث في تحديد عيد الفصح .
يشكل تاريخ سنة 195 محطة انتقالية من حكم السلالة الانطونية وآخرها كومود الى السلالة الساويروسية ، واولها سبتيموس ساويروس ذو الأصل والهوى الشرقيين . وقد امتد نفوذها الى حوالي سنة 250 ، بعد ان عرفت روما مع هذه السلالة أهم حقبة من حقبات تاريخها لجهة العمران والتقلبات السياسية . ولا سيما انها أحيت في هذه المرحلة الاحتفالات بمرور الف سنة على تأسيها. انتهى التأثير الفينقي السوري ( بالمعنى الواسع الحضاري للكلمة لا السياسي والجغرافي الحالي )، بحكم فيليبوس العربي الأب والأبن وهما تحديدا من بصرى الشام ، فيليبوبوليس . وقد اعتبر فيليبوس الاب اول من ادخل النفوذ المسيحي الى الدولة الرومانية . ويرجح انه اعتنق المسيحية ، كما يؤكد ذلك معاصره المؤرخ اوسابيوس القيصري ، الامر الذي أثار ضده ( فيليبوس ) معارضة داخل صفوف الجيش الروماني تجددت معها موجات من الاضطهاد استهدفت المسيحيين في جميع انحاء الامبراطورية، وكان اشدها ما جرى في عهد ديوقليسيانوس بين 284 و311 ، الى ان ظهر قسطنطين الكبير عام 312 الذي اوقف الاضطهاد واطلق حرية العبادة عام 313 من خلال اعلان ميلانو . بعد هذا التاريخ بدأت الدولة الرومانية تتحول تدريجا من نظامها الوثني الى المسيحية .
في عهد قسطنطين تستوقفنا أربعة احداث ذات صلة بلوحة ابولون وارتميس تستحق الذكر : - تجديد بناء كنيسة صور 316-323، على يد اسقفها باولينوس ، - مجيء والدة الأمبراطور ، القديسة هيلانة ، الى الشرق حيث عملت على ترميم الكنائس المهدمة وبناء كنائس جديدة منها كنيسة القيامة والمهد وربما كنيسة سيدة المنطرة في مغدوشة - إعلان يوم الأحد يوم عطلة عام 320 ، تكريما ل " الإله الشمس" ، من دون تحديد اذا ما كان المقصود به "ابولون" او ا"لسيد المسيح" ، لأن مسيحية قسطنطين بقيت ملتبسة وغامضة حتى اقتباله سر المعمودية في السنة الرابعة قبل وفاته
- اجراء تعديل على التقسيمات الادارية في الأقاليم الفينيقية عام 330 ، يلفتنا فيه تأسيسه مقاطعة جديدة تقع شرقي فينقيا الساحلية التي عاصمتها صور ، اطلق عليها اسم :
"Provincia Arabia Augusta Libanensis"
ولكن هذا الاجراء لم يدم مفعوله طويلا اذ ان كونستانس ، خليفة قسطنطين ، أبطله واعاد الحاق "المقاطعة العربية اللبنانية العظمى" بالعاصمة صور . (راجع : صور حاضرة فينيقية ، معن عرب ، دار المشرق – بيروت 1986 ، صفحة 86) .
5-2 الانتقال التدريجي من تكريم ابولون الشمس الى المسيح الشمس:
ذكرنا ان الفرضية الثانية لتاريخ أنشاء لوحة الدوير ، بحسب رينان ومعطيات متحف اللوفر على الأقل، هي سنة 295. شكلت هذه السنة والسنوات التي تلتها حتى 312 زمنا مفصليا في تاريخ الامبراطورية الرومانية، تميز ببروز عائلة قسطنطين فوق المسرح السياسي والعسكري، وبتفردها بشكل معين من العبادة والمعتقد جمعا بين الوثنية والمسيحية معا ، وذلك من خلال اعتقاد ساد لدى افرادها بأنها هي من يملك الايمان الصحيح ، الأيمان بالأله الشمس :
"Deus Sol- SOL INVICTUS "
، الأله الشمس الذي لا يُغلب ، الممثل بأبولون والذي حل مكانه "المسيح الشمس" أو النور ، في العقيدة المسيحية ، كما سنرى .
النور هو الصفة التي اثبتتها صيغة " قانون الايمان " : " نؤمن باله واحد ضابط الكل .... .اله من اله ، نور من نور" ، خلال مجمع نيقيا الذي دعا اليه ونظمه الملك قسطنطين بنفسه. وتبعه مجمع اقليمي عقد في صور تحت رعاية الامبراطور نفسه سنة ٣٣٥.
تأكيدا على هذا المبدأ المعتقدي (الشمس والنور ) في النهج القسطنطيني ( الذي مزج بين الوثنية والمسيحية ) بهدف تحقيق الوحدة وتوطيد السلام في الدولة ، نورد ما قاله أحد بعض الباحثين في تاريخ بداية المسيحية في معرض الحديث عن تكريم العائلة القسطنطينية ل "الأله الشمس" ، الصفة التي باتت تطلق على السيد المسيح بعد ان كانت تطلق على أبولون:
Ainsi la "paix constantinienne ", selon l'expression consacrée, est plus qu'un retour a la liberté, c'est une reconnaissance officielle de l'Eglise : elle est désormais favorisée et privilégiée, voire unie a l'Etat par des liens aussi forts que ceux qui unissent celui-ci aux vieux cultes de l'ancienne Rome et a la nouvelle religion solaire proclamée par Aurélien (qui en 270-275 ,fit construire à Rome le Temple du Soleil, magnifiquement orné par le butin rapporté de Palmyre, et desservi par un clergé spécial. En effet en 273, AURELIEN vaincra ZENOBIE, reine de Palmyre, et la cité du désert sera pillée).
La transition a précisément été facilitée par cette dévotion au Soleil, affichée déjà dans la famille de Constantin et par l'assimilation du Dieu chrétien au SOL INVICTUS.
Ainsi quand une loi de Constantin en 320 prescrit de chômer le dimanche, elle l'appelle DIES Solis , et non » le jour du Seigneur ».Bien d'autres lois manifestent , au moins implicitement ,la conversion du prince ,qui entrainait celle de l'Etat lui-même :les principes de la morale chrétienne inspirent maintenant le droit romain «. ( cf : Le Christianisme Antique, par M.Meslin et J.R Palanque, Collection U2,Armand Colin, Paris 1967, page 60)
اذا كانت لوحة الدوير قد انشئت في هذا الأطار التاريخي العام ، حيث انطلقت فكرة توحيد الدولة تحت عنوان "الأله الشمس الذي لا يُقهر " ، فليس مستبعدا إذا أن يعود رسم كوكب الشمس ، الظاهر على يمين اللوحة ، المحيط برأس أبولون الذي يمسك في يده اليمنى بصولجان السلطة ، ورسم شلعبون ، شعار قسطنطين ، المدرج في جدار كنيسة السيدة في عين إبل الى مصدر واحد ، على انهما عنصران من منظومة واحدة . منظومة سيطر على بعض جوانبها الطابع المزجي، سنكريتيسم Syncretism ،
الذي استغله بعض الحكام ( أوريليانوس وقسطنطين ) بأسلوب ديماغوجي ، كل حسب مفهومه الخاص، من اجل توطيد نفوذه في المجتمع الروماني المتعدد الدين والثقافة والعرق .
من هنا بدا ان قسطنطين المعروف بطباعه القاسية ، والبعيد عن الأخلاق المسيحية في اول عهده ، قد برع في انتهاز فرصة الالتحاق بالقوة المسيحية الصاعدة ، لكي يطرح نفسه قائدا مقبولا من الجميع، وثنيين ومسيحيين، عندما جاهر بمسيحيته ولكن من دون أن يذهب الى نهاية الانتماء اليها عندما بقي طويلا على موقفه المتأبي من تقبل سر المعمودية ، ليظل على مسافة واحدة من الجميع ، متمسكا في معتقده الديني والوطني بولاء مطلق ل"اله الشمس" الذي يمكن فهمه موجها إما لأبولون ، بالنسبة للوثنيين ، وأما للمسيح بالنسبة للمسيحيي.
نكتفي بهذا عن الاطار التاريخي الذي يمكن التوسع فيه....
- في خلاصة هذا العرض يمكن القول : إن تحفة الدوير ، ابولون وارتميس ، هي من اثار معبد فينيقي روماني يعود الى ما بين 195 و295 م. ويمكن ان تمتد الشريحة الزمنية الى حوالى سنة ٣٣٠ . وهو معبد من معابد المرحلة الانتقالية في المجتمع الروماني من الوثنية الى المسيحية ، حين باتت هذه الديانة الجديدة تشكل ديانة الاكثرية من سكان الدولة الرومانية .
كان هيكل الدوير في تلك الظروف احد المعابد العديدة المنتشرة في معظم المناطق اللبنانية ساحلا وجبلا ، ومن جملة المعابد المكرسة للبعل ، ابولون ، اله النور والخصب الذي يحظى بقسم كبير من الاناشيد الميثولوجية:
ابولون يقيم على الجبال ، شقيق عنات ، الملقبة ب "العذراء" ، "ندى السماء" ، "شفيعة الحقول والمزروعات" .
( راجع: لبنان من الوثنية الى المسيحية ، صفحة 22-24، ناصر الجميل ، بيروت 2000).
- وقبل الختام لا بد من الاشارة الى ان من حق ابن عين ابل اليوم ان يقرا في مشروع "معبد سيدة ام النور" عند مدخل عين إبل الشمالي ، كما في "نشيد النور" في بداية القداس الماروني صدى لتلك النزعة الايمانية الكامنة في عمق الوجدان الشعبي المتواصل في التراث منذ القديم ، نحو تمجيد النور الذي ينبوعه المسيح ،" نور الحق الذي ينير كل إنسان " (يوحنا : 1:9) : حسبما ورد في الانجيل ،
- أو كما جاء في قانون مجمع نيقيا الذي اشرنا اليه وقد رعاه الامبراطور قسطنطين بنفسه ، عام 325 ،وكان له ملحق عقد في مدينة صور عام 335، : " اله من اله ، نور من نور " ،
-او في نشيد الصباح في بداية القداس الماروني :
بنورك ربنا يسوع ، نستنير
يا عين الانوار ،
يا ذات النور الحقيقي ،
يا شمس الأقطار ،
أهلنا لنورك المضيء،
وفي صباحك البهج نستضيء.
- او في نشيد المساء الذي تتناقله الاجيال منذ عصر المماليك ( الرابع عشر ) والذي مطلعه:
"حطيت راسي عا فراشي"
"صدقت يا ام النور يا ام الشمع والبخور
صدقت يا ست الستات انت شمس السموات
انت عمود النور انت يا عطر البخور
خليني شمعة طولك تا يفيض علي نور.
ان موضوع النور ( المشعل ، والكواكب ) والخصوبة والانتاج ( الثوران ) ، والصيد ، والعمل الفني والزراعي (النخلة ) ، والعبادة ، والانتماء ، وسواها من المواضيع التي تنطوي عليها لوحة الدوير ، هي من ابرز المواضيع التي يدور حولها التراث.
من الجميل ان نستذكر هذا التراث ونلقي الضوء عليه ، ولكن من الاجمل والاجدر بنا أن نعرف كيف نحفاظ عليه ونترجمه أفعالا في مسار حياتنا اليومية ومجرى تاريخنا ، لكي نحقق بذلك التواصل ما بين ماضي الحياة بحاضرها الراهن ، والمطل بأمل ورجاء في آن على المستقبل الآتي ،
مرددين مع أحد الفلاسفة بقوله :
"ليس المستقبل الا للشعوب التي تكون قد عرفت كيف تقدم لأجيالها الصاعدة اسباب الأمل والرجاء" .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire