إن ننسى فلن ننسى: كيروز بركات.. يا قمرعين إبل.. يا بدر الجبل
كتبت فيرا بو منصف في "المسيرة" – العدد 1422:
تنظر الى الصور. شاب بمنتهى الوسامة. أحلى من الوجه الأبيض والشعر الأشقر والقامة الطويلة، تلك البذة الخضراء. الأخضر الحشيشي اياه بلون الشجر والعشب والأغصان التي تغمر الجبال التي أحب. كيروز بركات أي مقاتل مناضل لا يذكر ذاك القائد المضرّج بكل معارك العزّ؟ في صوره يرسم الخرائط العسكرية الى جانب رفاق، في أخرى وهو بكامل عتاده الحربي، يبدو وكأنه على أهبة الرحيل الى واحدة من تلك الجبهات المترامية التي شهدت خبطة قدمه. وفي ثالثة يصافح الشيخ بشير… ورابعة وسادسة وعاشرة… ومن في "القوات اللبنانية" لا يعرف كيروز ذاك؟
وسيم حتى النجومية، انما نجومية من نوع آخر، هي تلك الشخصية التي تفرض وجودها بهالة ما أسبغها الخالق ولا نعرف كيف ولماذا "ما كان حدا يقدر يناقشو بأي قرار الا أنا لأني خيّو، بس يقول بدنا نهجم يعني هيدا يللي لازم يصير ونقطة ع السطر". انها نجومية اتخاذ القرار الحازم في الوقت المناسب، نجومية القلب القوي الذي لا يعرف التردد ولا الخوف ولا الاستسلام، نجومية الاقدام والمواجهة لحين تحقيق النصر، وكانت له الكثير من تلك المحطات.
"قلبو دايماً حاضر لكل المواجهات"، يسرد وبإعجاب شديد أخوه الذي رافقه في بعض من معاركه. "قلبه حاضر"، تعبير رائع يفسر لماذا كيروز بركات كان حاضراً في كل معارك المقاومة اللبنانية وعند كل الجبهات الخطرة، من الأشرفية الى تل الزعتر فالمتن الأعلى الى شكا وزحلة وآخرها معركة الجبل. منذ العام 1975 حتى العام 1983 لم يرتح يوماً، لم تنزل البندقية عن تلك الأكتاف المنتصبة كرامة. كان يعرف أنه وسيم وأن قلب الفتيات يلهف له، الكثير منهن، لكنه أحب واحدة ولحق بها حتى مصيره في الضوء، بندقية الشرف. هذه كانت نجوميته.
في كل معركة عنده حكاية، في تل الزعتر أنقذ العشرات من شبابنا حين حاصرهم الفلسطينيون في أحد المعامل فأنقذهم واحداً واحداً وحمل الجرحى على ظهره تحت وابل الرصاص. كان من أوائل الذين استخدموا المدفعية في الاشرفية واستبسل في حرب المئة يوم. في زحلة أصيب بقدمه فأصر على مواصلة القتال وهو جريح، وحتى الآن يروي رفاقه كيف احتل موقعاً للفلسطينيين في احدى تلال الجنوب عندما ذهب وهو اعزل بثيابه المدنية ولم يكن معه سوى ملالة وستة من رفاقه، وأوهم المسلحين أنه على رأس قوة كبيرة، فانسحبوا خوفاً واسترجع التلة التي كان يتمركز فوقها القناصة.
كانت الجبهة جزءأً من حياته اليومية، ولم تكن فكرة الشهادة بعيدة عن البيت. فأمه ابنة شهيد وأخت شهيد قبل أن تصبح لاحقاً والدة الشهيد، "كانت الوالدة تبارك كل خطواتو بس من دون ما تحكي" يقول أخوه، وفي كل المعارك كانت تصر على البقاء في بيروت لتتمكن التواصل معه. كان عليه أن يتصل بها كل يوم لتطمئن الى أنه ما زال على قيد الحب وان كان يعصف مقاومة على جبهات الموت، كانت تباركه وتبارك كل خطواته رغم الخوف العظيم عليه. هي من ربته على حب النضال من أجل الارض وهي من زرعت فيه شجاعة المواجهة. في باله كان يخطط لغير مشروع، كان يريد السفر الى الخليج بعد استكمال دراسته الجامعية وتخرجه من الجامعة اللبنانية باجازة في ادارة الاعمال، لكن سبقته الندّاهة الى غير رحلة، وعندما طالبته والدته مرة بأن يسافر خارج لبنان الى حين انتهاء الحرب قال لها "اذا فلينا كلنا مين بيبقى بلبنان ولمين بيبقى؟".
في كل معركة خاضها كان كيروز بركات ابن عين ابل الذي انضوى في "حراس الأرز"، وأصبح لاحقاً أمين سر هيئة الأركان العامة في "القوات اللبنانية"، كان يعرف أن كل الاحتمالات السيئة مفتوحة، لكنه كان يخوض معاركه على أساس النصر ولا شيء سوى النصر. في آخر معاركه ذهب وكأنه كان يعرف أنه لن يعود الا مكللاً بنجومية الشهادة.
هي معركة الجبل معركته الأخيرة. لم يكن مركزه فوق لكن طلب منه الالتحاق، فنزل من سوق الغرب لتنسيق الهجوم على الشويفات. كان أيلول، العاشر منه، الورق الأصفر يجتاح مساحات ما تبقى من اليف، نصحه كثر ألا يفعل، ألا يصعد الى هناك لأن القصة وخيمة والنصر يبدو بعيداً وثمة ما يحضّر للمنطقة، لكنه كان مؤمناً بعكس ذلك شأنه دائماً. لكنه ولأول مرة اتصل بأهله وألزمهم جميعاً العودة الى الجنوب والهرب من بيروت، كأنه كان يعرف أنه لن يراهم ثانيةً، فأراد أن يبعد الخطر عنهم ويطمئن اليهم. كانت آخر مهامه، انسدل ورق أيلول فوق آخر أوراق ربيعه، استشهد في قبرشمون، اخترقت رصاصة القلب القوي، توقفت المعركة حين توقف قلبه.
انسدل ورق أيلول قوق آخر أوراق ربيعه.. استشهد في قبرشمون.. اخترقت رصاصة القلب القوي
وكان آخر شهيد في الجبل. كيروز بركات ولد في العام 1955 استشهد في العام 1983، هكذا كتب فوق قبره. لم يصدق أحد ان كيروز بركات تغلبه رصاصة، هو من جعل من المقاومة أيقونة ومن المواجهة ما يشبه عرس القلب حين يرقص على نغمات النصر، ذهب الوجه الوسيم الى شعاع المسيح، طارت النجومية الى حيث يليق بها، الى عمق السماء، فوق يضيء لنا الحكايات وليست أي حكايات، حكاية شاب اعتنق غير حب، حب لا غيرة فيه ولا منافسة الا مع تلك الاغصان التي تلفحه، أرز وسنديان، وذاك التراب التي يحويه، تراب هو بخور الأرض لنا في النجومية سفير فوق العادة، كيروز بركات، قلبه ما زال حاضراً وبقوة فينا… مشرقاً "قمراً" في عز الليل وفي عز النهار.
*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع "القوات اللبنانية" الالكتروني بالتعاون مع مجلة "المسيرة" ما عرضته في خانة "إن ننسى فلن ننسى" من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.
Envoyé de mon Ipad
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire