كلنا للوطن .أي وطن؟

SmileyCentral.com

mercredi 17 décembre 2014

بحث في سيرة البطريرك الكاردينال مار انطونيوس بطرس خريش

البطريرك الماروني الخامس والسبعون 

بقلم  جوزف خريش 

«البطريرك (أنطونيوس بطرس) خريش أكمل مهام كل البطاركة ولعب أدوارهم. وكان له من المواقف الأساسية آراء خاصة به هي انقلابية قياسًا بما درج البطاركة على الاعتقاد به » (د. بطرس لبكي، الشراع في 29/8/1994).
1-            مقدمة:
يقول عالم الاجتماع الدكتور بطرس لبكي إن «البطريرك خريش كان أهم البطاركة الذين عملوا على توحيد الطائفة». مشبّهًا دوره بدور البطريرك دانيال الشاماتي الذي جمع زعماء البلاد «ليوقّعوا على كلمتهم وتوطيد الأمن». تجرّأ على وُلوج جبهة قلّما تجرّأ غيره من البطاركة على وُلوجها،وهي «جبهة الموازنة في مواقف بعض زعماء الطائفة السياسيين». إلاّ أن حدّة الانقسامات بين أبناء الطائفة والخلافات الدموية وسيف الحرب ظل هو الأقوى. «كانت أصوات المدافع أقوى منه فظلمت دوره كما ظلمت دور الرئيس الياس سركيس» كما تقول هيام القصّيفي (النهار في 3/10/2007)
 مُعزيَةً هذا الظلم إلى أن الموارنة خذلوا بطريركهم ذا الشخصية الوديعة التي لم تستطِع أن تجبه عمالقة الحرب والسياسة، بعد محاولته القيام بدورالحكم. الأمر الذي حمل بعض الغلاة إلى القول: «ما كان يجب أن يُولّى ابن جبل عامل في جبل لبنان».
هل جاء البطريرك خريش، بطريرك الحوار والديمقراطية، وأستاذ الفلسفة والقانون، والمتشبّع بروح المجمع الفاتيكاني الثاني في غير زمانه ومكانه؟قد يكون هذا السؤال أحد أسئلة عديدة، في مقاربة هذه الشخصية الروحية والوطنية والفكرية التي كان لها مواقف أساسية وآراء انقلابية، وإن بدا بعضها اليوم مألوفًا وعاديًا في مواقف خليفته البطريرك مار نصرالله صفير ومجلس الأساقفة الموارنة والمجالس الكنسية المشتركة الأخرى.
2-            الثاني من جنوب لبنان:
قد يكون الخامس لا الثاني من جنوب لبنان إذا عدنا إلى سلسلات غير رسمية لأسماء البطاركة الموارنة. يعود هذا الاختلاف في الروايات إلى الحقبة الغامضة من تاريخ الكنيسة المارونية بين 685 و1120 (ورد في تاريخ الكنيسة الإنطاكية السريانية المارونية للأب مخايل الشبابي- المجلد 2 القسم الأول – بعبدا لبنان 1904 في الصفحة 117 والحاشية 1، أسماء لأربعين من البطاركة لم ترد في مدونات البطريرك الدويهي من بينها ثلاثة من جنوب لبنان هم: مرقص وأتناسيوس من صور وحزقيال من درب الصين (السيم)، بالإضافة إلى ستة آخرين من فلسطين هم:
أتناسيوس من عكا، بولس من حيفا إبراهيم من الناصرة، يواكيم وزكريا من القدس الشريف).
 ما أن توفي البطريرك الكاردينال بولس المعوشي الجزيني  في كانون الثاني من العام 1975 حتى راح الرأي العام، والأوساط كافة، يتساءلون مَن يكون البطريرك الجديد، ومن هو بين الأساقفة الموارنة الأكثر أهلية للقيادة الروحية في مثل تلك الظروف المصيرية التي شهدتها بداية الحرب في لبنان؟ بعضهم رأى أنّه لا بدّ، بعد المجمع الفاتيكاني الثاني والمقررات الإصلاحية التي خرج بها، من مجيء بطريرك قادر يضطلع  بدور الحَكَم، مُنفتح وقدّيس خصوصًا، وبوسعه أن يضع تلك الإصلاحات موضع التنفيذ، بما فيها روح الانفتاح، والمشاركة، والحوار المسكوني، وما بين الأديان، والعدالة الاجتماعية وسواها من القضايا الملحّة.
كان على البطريرك الجديد أن يواجه هيكليّات وعقليّات وتقاليد ليس من السهل التعامل معها، في ظل نظام طائفي، ووجود قوى مسلّحة تهدّد الأمن الأهلي، وكيان الدولة، وصيغة العيش المشترك. بعضهم تصوّر البطريرك الجديد على مثال البطاركة الأوّلين، قائدًا يجمع بين يدَيه السلطات كلها، أو رئيسًا للبلاد على مثال الرئيس القبرصي المطران مكاريوس.
هذا الموضوع طُرح جدّيًا على بساط البحث كما يؤكّده القانوني وجدي ملاّط عندما اقترح أن يتولى البطريرك رئاسة الجمهورية لمدة انتقالية، ظنًّا أنه لو يقبل بذلك
لوفّر الكثير من المآسي التي وقعت فيما بعد  على لبنان واللبنانيين منذ مطلع الأحداث. لكن هذا الاقتراح كان وسيظل لدى بطاركة العصر الحديث من المستحيلات، نظرًا  لتعارضه مع مبدأ فصل الدين عن السياسة وعدم المزج بين وظيفة رجل الدين مع وظيفة رجل السياسة.في هذا الاتجاه كان هناك من يرى أن على البطريرك الماروني ألاّ ينغمس في أي شكل من أشكال الصراع، ليبقى الحكَم والأب للجميع. من هنا  فإن طبيعة البطريرك خريش المسالمة ورؤيته الكنسية في ضوء المجمع المسكوني الذي شارك في أعماله مشاركة فاعلة، بالإضافة إلى رؤيته  في ما يتعلق برسالة لبنان في محيطه العربي والإسلامي، كل ذلك لم يكن إلاّ ليحمله على أن يكون الأب الروحي للجميع، التزامًا بتراث وعقيدة ثابتة في تاريخ المارونية ومتأصلّة في إنجيل التطويبات. أثبتت الأيام متانة هذه الرؤية، من خلال مواقفه الحكيمة، غير الآبهة أحيانًا بالتهديد الذي كاد يؤدّي به إلى الاستشهاد. مواقف تدحضما نُسب إليه ظلمًا من عجز وضعف بمقاييس القوة البشرية، مبرهنة في محطات عديدة، من حياته، شابًا وكاهنًا ثم بطريركًا،  عن شجاعة نادرة في مواجهة الموت دفاعًا عما يعتبره واجبًا وحقًا:
- ففي عين ابل، عام 1920، نجا من الموت في فاجعة أليمة أودت بحياة 92 شخصًا من أهل قريته، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وعاش ألم التهجير مدّة ثلاثة أشهر في القرى الفلسطينية المحاذية للحدود اللبنانية بين أيار ,آب من العام  1920.
- وقبل عام 1948، حين كان خور-أسقفا وقاضيًا في المحكمة الكنسية المارونية في حيفا تعرّض للموت أكثر من مرّة، دفاعًا عمّا يعتقده صوابًا في أحكامه القانونية بوجه متقاضين يحتكمون إلى القوة.
- وفي عام 1949 أصيب بعدد من الطلقات في جسده، بينما كان برفقة مطران الأبرشية آنذاك، بولس المعوشي، في مزرعة البطيشية التابعة لأوقاف مطرانية صور المارونية على الحدود اللبنانية الجنوبية.
- وفي بداية الأحداث اللبنانية، وبعد أن أصبح بطريركًا على الكنيسة المارونية، هدّده بالقتل أحد المسلّحين الموارنة على درج الصرح البطريركي في بكركي بعدما أبى الموافقة على المشاركة في تمويل مشروع لم يكن موافقًا عليه، له علاقة بالحرب والسلم. وهي حادثة معروفة يرويها أهل الصرح البطريركي ممَّن هم أحياء يرزقون.
- تحمّل بصبر عميق ألم فقدان ابن شقيقه المونسنيور ألبير خريش، أستاذ مادة القانون الدولي في الجامعة اللبنانية والقاضي الكنسي في المحكمة الكنسية المارونية، والمرشد الروحي في المدرسة الإكليريكية البطريركية في غزير: «كان شهيد حرية التعبير وشهيد الكنيسة». استشهد على شكل مأساوي، بعد أن كان ينادي بضرورة التجاوب مع دعوة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني منذ عام 1984 إلى الشباب اللبناني، من أجل التخلّي عن السلاح والانصراف إلى 
بناء الذات والوطن.في سياق هذا السرد عن مواقف البطريرك خريش المتّسمة بالشجاعة وتحمّل الآلام، لا بدّ من وقفة متأملة وعميقة - لا يتسع لها هذا البحث - على معنى استقالته النموذجية من المهام البطريركية، بعد بلوغه السنّ القانونية، احترامًا منه لقانون شارك في وضعه، ووفاءً لوعد كان قد قطعه على نفسه بأن يحترم القانون، متضرّعًا لربّه «ألاّ يميته إلاّ على القانون». لقد ترك للأجيال بهذا الموقف النادر والشجاع في تاريخ المارونية عبرة يرجى أن لا تذهب سدى في السلوكيتين الكنسية والوطنية.على الرغم من كل ذلك وُجد من يشوّه هذه الصورة الصافية. كان همّه في كل حياته، وبخاصة أثناء ولايته البطريركية، أن يرضي الله وضميره قبل كل شيء.
يقول: «همي أن أُرضي ضميري، وأن أقوم بما هو خير لشعبي وبلادي، وسيفهمون في المستقبل» إن لم يفهموا في الحاضر (من كلمة للمطران رولان أبو جوده،في كنيسة القلب الأقدس – بدارو، في 20/9/1994).
من أين أبدأ في بحثي هذا عن شخصية لها في قلبي احترام كبير ومعزّة خاصة. هل أتحدّث بلغة القلب، وهو القريب والنسيب؟ أم بلهجة العقل والموضوعية؟ ولا فضل لي في ذلك مهما توسَّلت.
إن سيرة البطريرك خريش لم تكتب بعد، وهي تنتظر من يضعها بالأسلوب التاريخي الملائم. حسبي في هذا البحث العاجل أن أتوقّف على بعض مراحل سيرته، مبيّنًا فيها مواقفه ومبادئه، وللتاريخ بعد ذلك أن يتابع ويحكم...
3-            من عين إبل إلى روما:
‌أ- من عين إبل:
تبدأ المحطة الأولى في سيرة البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش من تاريخ ولادته في 30 أيلول 1907 في عين إبل إلى تاريخ سفره إلى روما في أواخر العام 1920. تلقّى أنطونيوس أيّوب خريش دروسه في مدرسة القديس يوسف في مسقط رأسه، ونشأ في كنف ولدين فاضلين مكافحين. تيسّر له، على غرار بعض أبناء بلدته، أن ينعم بجانب من أسباب الانفتاح على التعليم بفضل إقامة الآباء اليسوعيين وراهبات القلبين الأقدسين
 في عين إبل وإنشائهم فيها مدرسة منذ عام 1866، مُوفّرةً مستوى مناسبًا للأجيال الصاعدة. أتاح التحصيل الدراسي لبعض الفتية أن يطمحوا إلى مراكز في سلك الكهنوت أو القضاء والتعليم. وكان من بينهم أنطونيوس الذي كان يتطلَّع  في بداية طموحه إلى أن يكون طبيبًا فلم يجد صعوبة في تحوّل مساره من رسالة الطب إلى رسالة الكهنوت لما بينهما من قواسم مشتركة في قيم التضحية وبذل الذات. فالعلاقة الودّية التي كانت تجمع ما بين راعي الأبرشية، المطران شكرالله الخوري وجمعية الآباء المرسلين اللبنانيين، من جهة، وآل خريش من جهة أخرى، آلت إلى أن يقضي الفتى أنطونيوس فترة وجيزة في معهد الرسل في جونيه قبل أن يلتحق بالمدرسة المارونية الرومانية التي كانت قد عادت إلى فتح أبوابها أمام الشباب الماروني، متابعة لتقليد عريق يمتد إلى سنة 1584. تشاء الصدف أن يكون أنطونيوس التلميذ العين إبلي الثاني في هذه المدرسة التاريخية، بعد أن كان سبقه إليها أحد أبناء عين إبل وأقربائه الخوري عبد المسيح الياس الطويل، الحدثي الأصل، الذي كان أوّل كاهن عليها بوضع يد المطران، والبطريرك لاحقًًا، يوسف العاقوري عام 1630. من عين إبل أستقى أنطونيوس «الطيبة الذكية»، كما قال عنه الشاعر سعيد عقل بعد أيام من توليه السدة البطريركية في شباط 1975، ومحبة الناس،والشغف بالمعرفة والاطلاع، والنمط البسيط في الحياة، والتقوى، وتلك الأصالة المعبّر عنها في التمسّك بالتقاليد مهما تعصرنت الحياة. حافظ أنطونيوس،
 في جميع محطات سيرته، على لهجته العين إبلية، المتوارثة والمطبوعة بالعيش المشترك في بيئة تعدّدية، منذ عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني،
والمتميّزة باستعمال «حرف القاف». كان غبطته يعتبر أن الحفاظ على هذا اللهجة هو دليل أصالة، وليس ما يوجب التخلّي عنها.
ب- في روما:دخل الطالب أنطونيوس خريش جامعة نشر الأيمان وهو في الثالثة عشرة من عمره. لم يكن قد أكمل بعد المرحلة التعليمية التكميلية على يد الخوري يوسف فرح كاهن رعية عين إبل، خريج الجامعة اليسوعية، ملمًّا بالعربية والفرنسيةوالسريانية. اضطرّ أن يعمل كثيرًا لكي يضاهي الطلاب القادمين من بلدان أخرى، ومن يكبرونه سنًا. فنال الدكتورة في الفلسفة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، مثيرًا بذلك إعجاب أساتذته ورفاقه في الجامعة. كتب المطران شكرالله الخوري في 13/10/1925 إلى البطريرك الياس الحويّك رسالة يستأذن فيها للشمّاس الدكتور أنطونيوس أن يأتي لقضاء فترة راحة في بلدته: «إن ولد غبطتكم أنطونيوس خريش العين إبلي، تلميذ هذه الأبرشية في مدرستنا المارونية قد أُذِن له هذه السنة أن يأتي إلى بلدته ليمضي فيها أيام العطلة المدرسية. والولد المذكور ربما كان أحسن تلامذة مدرستنا بالنظر لحسن سلوكه ونجاحه في المدرسة».
4-            العودة إلى لبنان وبدء الرسالة الكهنوتية
لأسباب صحية، اضطرّ أن يبقى في لبنان. فتابع العلاج في مستشفى أوتيل ديو حيث تأثر كثيرًا بروح التضحية التي كانت تبذلها الراهبات في خدمة المرضى، ما زاده إيمانًا بمتابعة دروسه اللاهوتية في المعهد الشرقي للاهوت، حيث أمضى ثلاث سنوات لينال في نهايتها الإجازة على يد الآباء اليسوعيين، وقبل أن يرقّيه المطران شكرالله الخوري إلى الدرجة الكهنوتية في 12 نيسان 1930 في كاتدرائية صور. اتخذ له شعارًا لذلك اليوم آية من سفر الأخبار الأول من الكتاب المقدّس: «من أنا يا ربّ وما بيتي حتى بلغت بي إلى ها هنا». آية طبعت على ظهر صورة تمثل وجه المسيح المتألّم مدركًا أن سرّ الألم هو جوهر الرسالة المسيحية، وعليه بالتالي أن يتقبّله بالروح عينها من القدرة على الصبر والتحمّل، والمشاركة في عمل الفداء.
5-            بين جنوب لبنان وبيروت وفلسطين:
بعد سيامته الكهنوتية قام الخوري أنطونيوس بمهمة التعليم في مدرسة مشموشة أولاً  ثم في مدرسة الحكمة في بيروت. كان أستاذًا محبوبًا من طلابه وناجحًا في تدريس مادَتيَ اللغة الفرنسية والفلسفة العامة، ثم  مادة اللاهوت التي كان يلقي دروسًا فيها على طلاب معهد اللاهوت في مؤسسة الحكمة التابعة لأبرشية بيروت المارونية. على يده تخرّج رعيل من المفكرين والمحامين ورجال الدين. تربطه في كل ذلك علاقة ودّية مع سيادة المطران اغناطيوس مبارك،
على الرغم مما كان يباعد بين الشخصيتين من مزاج وتباين في النظرة إلى الوطن والسياسة والقضايا القومية، مما لا مجال لذكره هنا. بعد تولّي المطران بولس المعوشي مقاليد الكرسي الأسقفي الماروني في صور، طلب سيادته إلى الخوري خريش أن يلتحق بأبرشيته بصفة أمين سر ونائب أسقفي. في صيف 1935 توجّه المطران مبارك إلى بلدة عين إبل حيث كان المعوشي يقضي بعض الوقت في زيارة رعائية طالبًا إليه أن يأذن للخوري خريش بمتابعة السنة الدراسية في مدرسة الحكمة لأنه محبوب من تلامذته ولا يمكن للمدرسة أن تستغني عنه في تدريس الفلسفة واللاهوت. أذِنَ المطران المعوشي  بأن يتابع خريش التدريس لسنة واحدة فقط، وفي السنة التالية كلّفه بأن يقوم بمهام أمانة سرّ مطرانية صور ثم بخدمة رعية حيفا المارونية في فلسطين، حيث كانت هذه الرعية تنمو نموًًا لافتًا جرّاء موجة النزوح السكاني إليها من الريف الفلسطيني واللبناني في جنوب لبنان، وبخاصة من منطقتيَ جزّين وعين إبل. لبّى الكاهن الخدمة في الرعية وأحسن إدارتها، وأسّس فيها الجمعيات الشبابية والنسائية والاجتماعية والخيرية، وجدّد مدرستها، ورأس فيها المحكمة الكنسية. نظّم سجلاّتها بطريقة عصرية تمكّنه من متابعة شؤون أبنائه والسهر عليها، كراع أمين «يعرف رعيته ورعيته تعرفه». فأحبّه أبناء الطائفة المارونية وأبناء
 سائر الطوائف المسيحية الأخرى بحيث اقترح أحد المحامين من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية على رؤسائه بأن يكون الخوري والقاضي الكنسي الماروني أنطونيوس خريش قاضيًا كنسيًا لجميع المسيحيين في حيفا، من الكاثوليك والأرثوذكس. مع العلم أن مثل هذا الاقتراح السابق لعصره آنذاك لا يزال غير مقبول حتى اليوم على الرغم من التطوّر المحرز على صعيد الحوار المسكوني بين مختلف الكنائس.
6-            صديق الفقراء واللاجئين ورجل العمران والعمل الاجتماعي:
على أثر نكبة فلسطين عام 1948 ونزوح مئات الألوف إلى لبنان عاد المونسنيور أنطونيوس خريش إلى القسم اللبناني من أبرشيته صور، كاهنًا وقاضيًا،ونائبًا لرئيس اللجنة البابوية لغوث اللاجئين الفلسطينيين، السفير البابوي المونسنيور مارينا. كانت ظروف اجتماعية وإنسانية أبدى فيها حسن التدبير والغيرة على المشرّدين والفقراء الذين التجأوا إلى منطقة صور في جنوب لبنان. تقديرًا لهذه الجهود عيّنه البابا بيوس الثاني عشر مطرانًا فخريًا على طرطوس في سوريا (بتاريخ 25/4/1950). بعد أشهر من ذلك جرى الاحتفال بسيامته الأسقفية في الديمان (15/10/1950) بوضع يد البطريرك  أنطون عريضة،  
وعيّن على الأثر معاونًا للمطران اغوسطينوس البستاني في صيدا، ثم مدبّرًا رسوليًا، فأسقفًا أصيلاً على الأبرشية (25/11/1957). بين سنوات 1950 و1957، وهي فترة زمنية وقع في أثنائها زلزال أتى على أجزاء من مناطق الجنوب اللبناني والشوف والبقاع الغربي، ومعظمها واقع في نطاق أبرشية صيدا المارونية، كان على المطران الجديد أن يواجه وضعًا اجتماعيًا وعمرانيًا عسيرًا. فراح يعمل على إيجاد السبل لترميم عشرات الكنائس
 والمؤسسات الدينية والأوقاف، وعلى بناء مؤسسات أخرى جديدة. في موازاة اهتمامه بشؤون الحجر لم يهمل خصوصًا شؤون البشر. فبذل قصارى جهده لينقل المؤسسة الكنسية من إطارها التقليدي إلى إطار عصري كان فيه للتربية والتعليم والتنشئة المستديمة للكهنة، والضمان الاجتماعي للكهنة المسنّين والمرضى قسط لافت. فكان المطران خريش، من خلال هذا النهج الرعوي، من السبّاقين في خوض هذه الميادين الاجتماعية التي كانت الكنائس الغربية،والمجتمعات المعاصرة، توليه أهمية كبرى في برامجها وسياساتها. خلال هذه الفترة الزمنية (1950-1957) شاءت العناية الإلهية أن يرافق المطران خريش رجلاً كبيرًا من رجال الكنيسة المارونية والوطن اللبناني، هو المطران اغوسطينوس البستاني. وقد عرف بنفوذه المعنوي والوطني، وبعلاقاته الطيّبة وتأثيره على القيادات، ومنها علاقاته الودّية المتينة مع الطائفة الدرزية الكريمة عمومًا وآل جنبلاط بخاصة، حتى لُقّب، جرّاء ذلك بـ«مطران الدروز». فأفاد المطران خريش من ذلك الاختبار الوطني والروحي الذي أقامه سلفه، فعقد بدوره، من خلال كرسي المطرانية الواقع على مسافة قريبة من القصر الجمهوري الصيفي في بيت الدين، أطيب العلاقات مع
رؤساء الجمهورية والحكومات اللبنانية وقادة السياسة والرأي. كان ذلك ما ساهم في تأهيل المطران خريش للاضطلاع بدور على رأس الكنيسة المارونية عندما حانت الظروف. وما ضاعف ربما من عمق الاختبار لاحقًا، بدءًا من الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 الوعي بضرورة المواجهة الاجتماعية لذيول هذه الحرب على لبنان عمومًا والجنوب خصوصًا. مع انطلاقة «العمل الفدائي»، وما رافقه من وقوع جزء من جنوب لبنان تحت السيطرة الفلسطينية (فتح لاند) وتصاعد «حركة المحرومين» بقيادة الإمام موسى الصدر، الظاهرة الشيعية المميّزة، كان على مطران صيدا الماروني أن يحسن ا
لتكيّف مع الأوضاع المأساوية المستجدّة، حفاظًا على النسيج الوطني، وحماية للوجود المسيحي المهدّد على غير صعيد. لذلك عرف كيف يحافظ على خيوط العلاقة وتمتينها مع هذه التيارات، مجسّدًا إياها في مشاريع عملية، تعبيرًا عن حوار الحياة مع أبناء المنطقة المتمثل بالعيش الواحد والتعاطف في  القضايا المصيرية المشتركة. لقد استبق الظروف فأسس «كاريتاس لبنان الجنوبي» في صيف 1972، تحسّبًا للمعضلات الاجتماعية الناجمة عن الأوضاع المستجدّة، وإرساء لإطار من التعاون الفعلي مع الجنوبيين وفي ما بينهم في الملمات المنذرة بالوقوع. استبق من جهة أخرى الظروف بتأسيسه «هيئة نصرة الجنوب» بالتعاون مع الإمام موسى الصدر ورجال الدين المسلمين شيعة وسنّة ودروزًا، ويدًا بيد مع مطارنة الجنوب من كل الكنائس (في 13/5/1970)، إدراكًا من الجميع بأهمية الهدف الوطني لمثل هذا القرار، الذي سيعمل سيادته على تنميته لاحقًا في السدّة البطريركية، قاطعًا بذلك الطريق على كل من يريد صبغ الحرب بصبغة الطائفية، وصونًا لجوهر الصيغة اللبنانية القائمة على وحدة الحياة، في إطار الوطن الواحد الحاضن
 للجميع.
7-            بطريرك الحوار والإصلاح الكنسي (1975- 1985):
عندما انتخب البطريرك خريش بالإجماع من قبل مجمع الأساقفة الموارنة في الصرح البطريركي في بكركي، قيل أنه انتخب بتدخُّل من الروح القدس،عبارة تقليدية ولكنها أخذت هذه المرة معنى تجاوز التقليد إلى الإيمان الفعلي بالنسبة لمن عايشوا الحدث. فثبَّت أن بعض الأحداث في التاريخ لا يوجّهه دائمًا المصنّفون أقوياء بمنطق البشر، بل الضعفاء الأقوياء بمنطق الله. لم يمضِ أكثر من شهرين على انتخابه (بين 3/2 و13/4/1975) حتى اندلعت الحرب في لبنان. فجاءت بياناته ومواعظه العديدة، بمثابة «مزامير سلام» ودعوة إلى الحوار والمصالحة مع الذات والقريب والله.لم تكن اللغة التي كان يتقنها البطريرك الجديد، لتلقى الصدى الايجابي لدى السامعين. فكان من بين الموارنة من أعلن احتجاجه على انتخابه، قبل أن يعود عن كلامه معتذرًا: «ما كان يجب أن يولّى ابن عكا في جبل لبنان»، تلميحًا - ربما - إلى خدمة خريش في حيفا أو إلى تعاطفه المعروف مع الجانب
العادل في القضية الفلسطينية... في وقت عصيب راحت فيه القوى الفلسطينية المسلّحة تهدّد السلم الأهلي والجمهورية اللبنانية. لم يكن منطق الحوار،الذي اختير البطريرك الجديد لأجله، هو الغالب في الأجواء اللبنانية التي أدّت إلى الحرب اللبنانية. كان مصممًا ألاّ تجرفه المواقف المتصلّبة، مهما تفاقمت ضدّه لغة التهديد والعنف. قال للذي حاول أن يطلق عليه الرصاص على درج بكركي: «أطلق إذا كنت تعتقد أن في موتي خلاصًا للبنان». يقول البطريرك في رسالة الصوم للعام 1976: «إن رسالتنا هي في هذه البقعة من الشرق رسالة المسيح المصلوب (...) رسالة الفداء الكبير والمحبة العظمى (يو 15/13) شهادة يصحبها تعب ومشقة واضطهاد (لوقا 21/12-13) وقد أدّينا هذه الشهادة بالأمس واليوم وسنؤدّيها غدًا مثلما أدّاها الآباء والأجداد»، في عين إبل وفي كل بقعة من لبنان والإطار الإنطاكي. لا شك أن روحه المسالمة وتشبّعه بتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني الإصلاحية، وحبّه للعدالة والحقيقة، هي من الايجابيات التي لعبت دورًا بارزًا في وقوع اختيار مجمع المطارنة عليه ليكون على رأس الكنيسة المارونية. حسبنا أن نشير إلى أن ما قام به البطريرك خريش على صعيد وضع توصيات المجمع الفاتيكاني الثاني موضع التطبيق كان قد بدأت تظهر نتائجه، من خلال إطلاق عملية الحوار على جميع المستويات:
أ- على الصعيد الماروني:
كان اهتمامه مميزًا في شؤون التربية الكهنوتية، في المدرسة الإكليريكية في غزير، وفي كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس- الكسليك، والمشاريع الاجتماعية والإنسانية التي ساهم في تأسيسها وتنظيمها، منها ما شهدت انطلاقتها في عهده، ومنها ما ظهر في عهد خليفته غبطة ونيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، مثل الإعداد للمجمع البطريركي الماروني وتأسيس الأبرشيات الجديدة في النطاق البطريركي وعالم الانتشار، «ومشروع اتحاد العائلات» الذي ظهر للنور لاحقًا من خلال ما يعرف بالصندوق الماروني والمشاريع الإسكانية والإنمائية المتصلة به. من الأمور اللافتة التي تصبّ في جوهر المسائل التي يعاني منها لبنان والتي تعني وحدة الكنيسة المارونية واستمرارها، كانت المساعي العديدة لتحقيق المصالحة المارونية
 الداخلية، ولا سيّما منها مسألة أهدن، التي بذل خريش كثيرًا من جهوده لنجاحها، إلاّ أن النازع الانقسامي ظلّ أقوى من إرادة الوحدة، كما ظلّ تحدّيًا مطروحًا على الضمير الماروني حتى الساعة.
ب- على الصعيد المسكوني والحوار المسيحي الإسلامي:
انطلقت في عهد البطريرك دينامية غير مسبوقة، فأصبحت لقاءات البطاركة والأساقفة الكاثوليك شبه منتظمة بعد أن كانت من الأمور النادرة في عهد البطريرك المعوشي الذي لم يكن يبدي شديد الحماس لتطبيق توصيات المجمع الفاتيكاني الثاني، باعتباره له  أنه يعني الكنائس الغربية أكثر مما يعني الكنائس الشرقية.إلى ذلك كانت بكركي مسرحًا بل مركزًا - كما هي اليوم أيضًا -  لقرارات جريئة في شأن الحوار المسيحي الإسلامي. تعددت اللقاءات الودية والاتصالات بين الثلاثي «خريش وخالد والصدر». وفَّرَ التلاقي بين البطريرك الماروني ومفتي الجمهورية ورئيس المجلس الشيعي (أو نائبه الإمام محمد مهدي شمس الدين) وشيخ عقل الدروز الكثير من الدمار والآلام على اللبنانيين. عمل خريش على ألاَّ يصدر بيان عن أحدهم، أو عن  المؤسسات التي يمثِّلها كل منهم، من دون تشاور في ما بينهم، وذلك لكي يأتي الإعلان- بقدر الإمكان- منسجمًا مع روح الوحدة والعيش المشترك، ولكي يقطعوا على أصحاب النظريات الطائفية أي استغلال لها. برهنت الأيام أن «وصايا الإمام» للشيخ محمد مهدي شمس الدين، يمكن أن تكون أيضًا وصايا بطريرك، نظرًا للروح السَّمحاء والرؤية الصافية التي انتهى إليها بعد نضوج إلى ما يختص بالوطن اللبناني. إن تراجع الإمام عن نظرية «الديمقراطية العددية»، و تراجع سلفه الإمام موسى الصدر عن شعاره «السلاح
 زينة الرجال»، وتراجع المفتي خالد عن شعار «الفلسطينيون جيش المسلمين»، كلُّها تؤكد على التآلف بين الرؤساء الروحيين حول رسالة رجل الدين في خدمة الوطن، بعيدًا عن الانغماس في مزج وظيفة السياسة بوظيفة الدين السامية. هذه النقلة لم تكن لتحصل، ربّما، في وعي رجل الدين اللبناني المسلم، إلى هذا الحدّ، لولا الصداقة وبالتالي التفاهم الودّي الذي كان يجمع بين رؤساء المقامات الروحية اللبنانية، والتي اضطلع فيها البطريرك خريش بدور أساسي، قبل أنتصبح جزءًا من التراث الوطني والروحي اللبناني. وهو الذي عرف عنه، بالإضافة إلى هذا الانفتاح، دعوته الصريحة إلى علمنة الدولة وتأييده للزواج المدني،
الأمر الذي جعل شخصيته أكثر مقبوليةً من جهة الأحزاب والتيارات التقدمية واليسارية المناهضة لسلطة رجال الدين (أنتي كليريكال). فأقام إلى جانب الحوارالمسيحي الإسلامي، حوارًا شبه موازٍ له هو الحوار المسيحي اليساري. حوار لم تعمل المؤسسة الكنسية فيما بعد على تشجيعه وتنميته.
8-            أفكاره الروحية والاجتماعية:
للوقوف على أفكاره الروحية والاجتماعية، وخصوصًا على آرائه ومواقفه من الأحداث الأليمة التي انفجرت في الأشهر الأولى من ولايته، وما يزال لبنان يعاني منها حتى اليوم، لا بد من العودة إلى مجموعة العظات والرسائل والتصريحات التي قام بها خلال السنوات العشر من ولايته البطريركية. وهو عمل بحاجة إلى من يجمع شتات وثائقه وتحليلها ونشرها:
- في رسالته الأولى «أمثولات الأحداث»، التي صدرت في صوم 1976، يتوقّف على أسباب الحرب ومظاهرها المأساوية واللا أخلاقية، التي لا يمكن الخروج منها بحسب رأيه، إلاّ بالعودة إلى الله تعالى وإلى الحوار الأخوي الصادق بين الجميع.
- في رسالة الفصح حول «الأزمة اللبنانية»، من العام نفسه (17/4/1976)، والتي صدرت عنه وعن مجلس البطاركة والأساقفة، الذي أحيا دوره وفعّله، يحثّ فيها أبناءه المسيحيين على المثابرة في الإيمان وعلى تحمّل مسؤولياتهم، وعلى التجدّد، الذي من أولى شروطه تغيير الذهنيات.
- في 2/5/1976 يوجّه البطريرك رسالة أخرى، حول الأزمة اللبنانية، إلى رؤساء وأعضاء المجالس الأسقفية في العالم الكاثوليكي يطلعهم فيها على حقيقة ما يجري في لبنان من أحداث، مبيِّنًا فيها أن الحرب الدائرة في لبنان ليست حربًا أهلية ولا دينية، كما تصوّرها وسائل الإعلام. بل أن لبنان هو ضحية قوى سياسية عمياء. فيذكّر الأسرة الدولية بواجباتها في ما يخصّ الحفاظ على الدول الأعضاء وعلى شعوبها.
- ثم يعود في رسالة عيد الميلاد للعام نفسه، متوجِّهًا إلى ضمائر اللبنانيين، كي يعملوا على «بناء لبنان»، انطلاقًا من بناء الإنسان، وعلى أساس العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسلام والحرية، مؤكدًا أن الدولة التي تقوم على أساس الدين والعرق لا تستطيع أن تتغلب على الويلات. الدولة العادلة توفّر لجميع مواطنيها تكافؤ الفرص وفي كل الميادين. هذه الشروط لا تتوفّر إلاّ في الدولة الديمقراطية. «من شأن هذا النظام أن يشرك جميع المواطنين في مسؤولية إدارة الدولة وتخطيط سياستها عن طريق انتخابات حرة، وأن يصون لهم كرامتهم فلا يفسح مجالاً ليسار يستبد بهم فيستعبدهم لدولة أو حزب، ولا ليمين يستغلّهم فيفقرهم ليكسب الأموال على حسابهم. وهذا النظام يتيح للمواطنين حل مشاكلهم بالحوار الهادئ والاقتناع ضمن إطار أحزاب سياسية  معترف بها شرعًا».
- في 11/8/1976 يوجّه البطريرك نداءً آخر إلى أبنائه الموارنة، إكليروسًا وعلمانيين مقيمين ومغتربين، يعرض فيه ما يصحّ أن يكون برنامج بكركي للإصلاح والخروج من الأزمة الراهنة: برنامج يشمل تعزيز دور العلمانيين والخدمة الاجتماعية، بحيث تتضافر الجهود «في إطار هيئة منظمة لها قوانينها والمسؤولون عنها ووسائلها...» ويعترف بها رسميًا لمواجهة الحالة الراهنة. وقد أطلق عليها اسم «الهيئة المارونية للتخطيط والإنماء». غايتها أولاً «إيجاد الموارد لمساعدة منكوبي الأحداث، وفي طليعتهم المهجرون والمشوهون وعائلات الضحايا»، وثانيًا، «العمل باستمرار (...) على المساعدة لتوفيرالأسباب الرامية إلى تطوير الكنيسة المارونية ورفع مستوى أبنائها الديني والاجتماعي والتربوي والثقافي وفقًا للميادين الإنجيلية السامية».
- في 16/2/1977 يوجه البطريرك خريش رسالة رعوية في مناسبة الصوم الكبير بعنوان: «خواطر في التربية الدينية والخُلقية والوطنية». يتساءل في مطلعها: «تُرى لو كان الدين أرسخ في القلوب، والأخلاق أثبت في النفوس، والوطنية أوطد في الأذهان، هل كان حدث ما حدث من منكرات شوّهت تلك البطولات، وأثارت اشمئزاز العقلاء واستغراب الأصدقاء؟». ثم يذكّر بواجبات العائلة في هذه التربية، استنادًا إلى تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني والوثائق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، كما يذكِّر بدور المدرسة، وبخاصة المدرسة الكاثوليكية وبدور الدولة التي من واجبها «مراعاة العدالة التوزيعية بحيث يتمكن الوالدون من أن يختاروا بحرية تامة لأولادهم المدرسة التي توافق ما يمليه عليهم ضميرهم...». فإلى التربية الدينية التي لا يجب إهمالها، على الدولة الاهتمام بالتربية الخلقية،بنور العقل والبديهيات التي يدركها الإنسان بالفطرة، وعلى أساس التقليد الحميد الذي هو جزء من التراث القومي. وهكذا يرسم البطريرك ما يصلح لأن يكون قواعد لبرنامج تربوي ديني ومدني معا للأجيال اللبنانية، يأخذ بالاعتبار الأسس المشتركة بين اللبنانيين لبناء وطن الإنسان والرسالة، حيث ينشأ المواطن والمؤمن واعيًا لمسؤولياته، متقيدًا بالأنظمة والقوانين. يمكن اعتبار هذه الرسالة نموذجًا من التعاليم الكنسية الموجَّهة لا إلى الموارنة وحسب بل إلى الضمير اللبناني والإنساني عامة.ربما كان الأسلوب الراقي الذي اتسمت به هذه الرسالة وسواها من رسائل البطريرك «القرشي» (والتعبير هو للرئيس سليمان فرنجية) هو ما حمل السيد هاني فحص أن يصف أسلوب البطريرك خريش في الكتابة بأنها «لغة عربية صافية مشتقة من لغة القرآن ونهج البلاغة (...) بالكلام البليغ يعيد الحق إلى نصابه (...) إنهم الروحيون الكبار يشحذهم الإيمان سيوفًا قاطعة فوق رقاب الظلمة والجبابرة مشكى ضيم للمظلومين، مصدر عزاء وأمل، بلسمًا للجراح وجبرًا للخواطر والكسور» (مجلة الرعية عدد 292، آب 1994، ص. 39-40).
لم تنقطع الرسائل والنداءات المتلاحقة في العامين الأوَّلين من ولاية البطريرك خريش، وكأنها - كما قيل - «مزامير سلام» ونداءات إلى الضمائر المحلية والإقليمية والعالمية، وعلى كل المستويات، لوقف النزيف المستبد بجسم الوطن اللبناني وبأبنائه. فبعد الرسالة العميقة الأبعاد في التربية الدينية المشار إليها كان له رسالة أخرى لا تقل عمقًا وأهمية في معاني «التوبة» (الصوم الكبير 1978)، و«في حقوق الطفل» (الصوم الكبير 1979) و«قيمة الألم» (1984)... إ
لى نداءات مدوّية أطلقها في 25/3/1978 حيث يستصرخ ضمائر المسؤولين كيلا لا يقعوا في تجربة التقسيم، وفي 19/6/1978، حيث يوجّه نداء شديد اللهجة، مفعمًا بالحزن والألم، على أثر الصدامات التي وقعت بين المسيحيين في أهدن، في شمالي لبنان من أجل الوحدة بين المسيحيين والارتفاع فوق الجراح الى المصالحة والغفران.
وفي 6 تموز 1978 يوجه نداءً إلى المسؤولين السوريين، على أثر قصف الجيش السوري بوحشية للعاصمة اللبنانية بيروت وبخاصة للأحياء ذات الغالبية السكانية المسيحية فيها، ونداء  في صيف عام 1983 إلى أبناء الطائفة الدرزية، إثر الانسحاب الإسرائيلي من منطقة الشوف، حيث يحذر من  أن مستقبل لبنان مهددٌ جرّاء القتال المميت بين الذين بنوا معًا هذا الجبل، داعيًا الأطراف إلى العودة لأحضان الشرعية والوطن الواحد الذي صنعه الأجداد معًا. إذا كانت أفكار البطريرك خريش الروحية والاجتماعية قد تضمَّنتها أكثر ما تضمَّنتها رسائله العشر التي كانت تصدر في مناسبة الصوم الكبير وهي على التوالي:
- أمثولات الأحداث، 1976.
- خواطر في التربية الدينية والخلقية والوطنية، 1977.
- في التوبة، 1978.
- في حقوق الطفل، 1980.
- في واجب تثقيف الضمير،1981.
- في ممارسة الأسرار الإلهية، 1982.
- في يوبيل الفداء، 1983.
- في الألم وقيمته الخلاصية، 1984.
- في وجوب العودة إلى الذات وإلى الله وإلى القريب،1985.
إن الخطب والكلمات العديدة التي ألقيت في مناسبات زيارته إلى الفاتيكان وفرنسا والولايات المتحدة تشكِّل أثارًا قيّمة تتجلى فيها رؤيته إلى دور لبنان ورسالته الحضارية في خدمة السَّلام لكل العالم، من خلال ما يقدِّمه من نموذج فريد في التعايش بين الجماعات المتعددة الأديان والثقافات، ما يملي على الضمير العالمي والأسرة الدولية الحفاظ على هذا الوطن.

9-            مارونية الصليب والبساطة والانفتاح:
إن نظرته إلى السلام في لبنان والمنطقة عبّر عنها بما عرف عنه من روح الانفتاح والتسامح في اختبار، تميّز بالتواضع والألم والحوار، وعاشه في بيئته اللبنانية الجنوبية التعدّدية، وفي خدمته الكهنوتية في فلسطين. ولعلّ أعمق وأصدق ما عبّرت عنه رؤيته «النبوية» إلى الأحداث في لبنان والمنطقة هو ما جاء في التقرير الذي وضعه في مطلع الثمانينات الكاردينال أوكونور، رئيس أحبار نيويورك، الذي كان يعتبر نفسه صديقًا للبطريرك خريش والموارنة ولبنان، حيث قال إن مأساة لبنان لن تنتهي قبل أن تنتهي مأساة فلسطين. هذه الحقيقة التي ما زالت قائمة هي التي، ربّما، جعلت صورة البطريرك «القرشي»، مهمّشةً في كنائس جبل لبنان. وذلك لتعارض نظرتة في قضايا مسيحية ووطنية جوهرية مع نظرة أمراء الحرب اللبنانية، ولا سيّما بعض المسيحيين منهم. إن استمرار سيطرة مثل هذه النظرة والواقع، يحول، بلا ريب حتى الآن، دون قراءة موضوعية ومنصفة لما قام به البطريرك أنطونيوس خريش في خدمته للبنان الرسالة، وهي خدمة تتواصل بشكل حكيم من خلال النهج الذي يتبعه خلفه البطريرك نصرالله صفير، حتى وإن بدا أن هذا النهج في بعض جوانبه المحليَّة يستعيد ما فقده خلال الولايتين الجنوبيتين السابقتين. لقد برهنت ولاية البطريركين الجنوبيين المعوشي وخريش وسواهم من البطاركة الجنوبيين المغمورين، أن
المارونية، وإن ارتبطت جغرافيًا بجبل معيّن، هو جبل لبنان، إلاّ أنّها تبقى بما تحمله من روح الانفتاح على الشرق والغرب معًا،كنيسة الإنسان المتألم، تحمل قضاياه، كما تحمل قضية المصلوب دائمًا، أينما وأنّى كان، كما عبّر عن هذه الحقيقة خير تعبير الأبَوان ميشال حايك، ويواكيم مبارك: «لا مستقبل للمارونية ما لم تتحرّر من قيود العنف والبهرجة الفارغة».

في ضوء هذا الرأي، الذي أختم به هذا البحث، يمكن تقييم ولاية البطريرك خريش التي تميّزت بروح البساطة والحوار والدينامية الهادئة التي رأى فيها - بحق - أحد أصدقائنا المفكرين الموارنة أن «البطريرك خريش أكمل مهام كل البطاركة ولعب أدوارهم وكان له من المواقف الأساسية آراء خاصة به هي انقلابية
 قياسًا بما درج على الاعتقاد به البطاركة» (الشراع 29/8/1994).


jeudi 20 novembre 2014

Fwd: الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير


 الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين
في مؤتمر وادي الحجير




الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف ظروف وأسباب عقد مؤتمر وادي الحجير.
2- يعرف دور السيد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير.
3- يدرك النتائج التي ترتّبت على مقرّرات مؤتمر وادي الحجير.

97


لماذا عُقِد مؤتمر وادي الحجير1؟
اختير وادي الحجير مكاناً لاجتماع العامليين { الشيعيين فقط } بكل شرائحهم: الزعماء والعلماء والوجهاء، نظراً لتوسّطه البلاد العاملية، ولأنّ الثوّار كانوا يسيطرون عليه، زيادة على أنّه كان صعب المنال على الجيش الفرنسي وقد تداعوا للبحث في الموقف السياسيّ من جميع جوانبه، والنظر في مصير البلاد العاملية على نحو تطمئنّ إليه الجماعة القلقة. ففي يوم السبت 24 نيسان سنة 1920م عُقد المؤتمر. وكان العلماء والزعماء والثوّار حاضرين، وقد ألقى العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين خطاب الافتتاح مذكّراً بالموقف الحرج. وكان لخطابه أثره في النفوس رفضاً وكرهاً لسياسة فرنسا المتّبعة.

التداول والمقرّرات : لقد كان كلام السيد عنيفاً ويهدف إلى تعبئة العواطف ضدّ الفرنسيين. وقد عبّر بذلك عن وجهة نظر المؤتمرين حول استقلال جبل عامل ضمن المملكة السورية التي دعوا إليها باسم الوحدة السورية. ثمّ حثّ على التضامن والاتّحاد، وبيّن عاقبة

98


الاختلاف والفوضى التي تفسح المجال للقول إنّنا لا نستطيع التمرّس بالحكم الذاتي، ومن هنا يأخذ المستعمر طريقه إلينا. وحثّ على المحافظة على الأمن في البلاد عامّة وتأمين المسيحيين ، ثمّ تناول مصحفاً من جيبه، وأخذ اليمين على العلماء والزعماء.

وفي نهاية المؤتمر انتخب الشيخ حسين مغنية رئيس العلماء ليرأس وفداً إلى دمشق، لمناقشة ما اتّفق عليه مع فيصل، لكنّه اعتذر لكبر سنه، فانتُدب السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين بالإضافة إلى السيد محسن الأمين الذي كان نزيل دمشق والذهاب معاً للقاء فيصل. وقد صُدِّق بالإجماع على الوثيقة المقرّرة في المؤتمر، والتي تضمّنت الموافقة على القرارات الصادرة عن المؤتمر السوري, أي استقلال سوريا الشامل بإمرة فيصل، بلا تقسيم ولا حماية فرنسية.
والتحاق جبل عامل بسوريا في إطار الاستقلال الإدراي.

وقبل انطلاق الوفد إلى دمشق، طلب العلماء والزعماء من صادق حمزة ورجاله أن يعدهم للفرنسيين، فانصاع صادق لطلبهم واستثنى من كان (إلباً) للفرنسيين, أي عوناً على الوطن واستقلاله مجاهراً بذلك مع الغاصبين المحتلين، مسلماً كان أو مسيحياً, لأنّ جهاده كان حسب قوله: "سياسياً لا دينياً".
ماذا بعد المؤتمر؟
نتيجة للمبالغات التي أعقبت عقد مؤتمر وادي الحجير، وبسبب نقل وقائع المؤتمر مشوّهة أو محرّفة والتي كان من شأنها إثارة عواطف المسيحيين واستعداؤهم، وتشجيع المستغلّين لمثل هذه الأحداث، فإنّ التوتر ازداد في جبل عامل بين الشيعة والمسيحيين، وساءت الأحوال. وزاد في الأمر سوءاً، ما فعله الفرنسيون الذين ذرّوا على الجرح ملحاً فسلّحوا أهل عين إبل من جهة، وأظهروا عجزهم إزاء العصيان المدني الشامل الذي لجأ إليه العامليون، وقد سوّل المستعمر لأهل عين إبل, فاغترّوا بحصانة موقعهم وبقوّة أسلحتهم، وابتدروا من مكانتهم منصلتين بالعداوة والمجاهرة بالاعتداء، فكانت هذه 

99


حركة استفزازية، قابلها الفتيان العامليون بالاستياء والحفيظة. إذ لا بدّ من القول إنّ القرى التي هوجمت كان يسكنها مسيحيون لم يخفوا انتصارهم لفرنسا، وكان سكّان عين إبل، أكثر القرى المصابة، قد استقبلوا الجنرال غورو بفرحةٍ عارمة، وهم يردّدون هتافات عن تعلّقهم ببلده، لذلك أوفدوا شخصاً لطلب الحماية الفرنسيّة من الضابط المقيم في صور، فاكتفى بتزويدهم بالسلاح، نظراً لعجزه عن إجابة طلبهم، كما أنّهم رفضوا طلب موفد صادق حمزة بإعطاء المتمرّدين سلاحاً ومالاً وبرفع راية فيصل. ومن البديهيّ أنّ سكّان هذه القرى كانوا بذلك يعرّضون أنفسهم لتهمة التعاون مع الفرنسيين أو العمالة لهم من قبل الشيعة. وفي الخامس من أيار سنة 1920م، هاجمت كتيبة محمود أحمد بزّي، يصاحبها وجهاء من آل بزّي، آخر قرية مسيحية في قضاء صور، وهي عين إبل القريبة من بنت جبيل. أمّا صادق حمزة فقد اتّخذ هدفه موقع صور الفرنسي. وقد تابعت كتائب انتشارها في جبل عامل، يشجّعهم في ذلك الوطنيون في دمشق، إذ أرسلوا إلى صادق حمزة رسائل التهنئة يصفونه فيها بأنّه قائد جبل عامل.

حملة نيجر التدميرية
في النصف الثاني من شهر أيار انطلقت مفرزتان بأمرة العقيد نيجر من النبطية وصور، والتقتا في تبنين، ثمّ تابعتا سيرهما نحو بنت جبيل، وهما تضمّان أربعة آلاف جندي. والحقيقة أنّ المعركة كانت شرسة فصدّها صادق ورجاله عن التقدّم حتّى نفدت ذخيرتهم، ولم يموّلهم أحد بمدد فتراجعوا. وكان من شجاعة الثوّار أنّ أحدهم اقتحم برج مصفّحة فقتل سائقها، ورجع سالماً!

وفي الوقت نفسه كانت فرقة أدهم تتصدّى للحملة على طريق المصيلح. وعند قدومها آتية من الزهراني أمطرها الثوّار بكثافة، لكنّ الحملة كانت مسلّحة تسليحاً كاملاً بالدبابات والمدافع وعربات الجنود فقتل من الحملة عدد لا يستهان به، ثمّ انسحب الثوّار باتّجاه النبطية حتّى منطقة مرجعيون، وهناك التقت مجموعتا صادق

100


وأدهم، ثمّ انتقلتا إلى سهل الحولة، فانضمّت إليهما مجموعات الثوّار هناك، وبدؤوا بمهاجمة الفرنسيين في مرجعيون وضواحيها.

تدابير نيجر القمعية ضدّ العامليين
كانت تدابير القمع بحقّ الثوّار وقُراهم قد أثّرت تأثيراً عميقاً في العامليين، ما يسمح بالقول إنّ الفلاحين أصيبوا بالرعب. وما زالت ذكرى قصف القرى الشيعية بالطائرات تُتناقل إلى اليوم في الأحاديث الشفهية. وكان الوجهاء الشيعة كلّهم في نظر الفرنسيين متورّطين فمن لم يفرّ منهم بسبب حكم عليه، وقد استدعى العقيد نيجر في 5 حزيران سنة 1920م عشرة منهم إلى مطرانية الروم الكاثوليك في صيدا. وقد وبّخهم بحضور الوجهاء السنّة والمسيحيين، ثمّ ألزم الشيعة بتوقيع شروط مفروضة عليهم، وإلّا نفاهم، ومنها أن يدفع الشيعة غرامة مالية قدرها مئة ألف ليرة ذهبية، وأن تدفع الضرائب، وأن يُسلّم المحكومون، وأن يُنشر الأمن في القرى المسيحية، وأن يُسمح لهم بالعودة إلى قراهم. لقد فهم الشيخ أحمد رضا، أنّ هذه السياسة تهدف إلى إفقار الطائفة الشيعية، وقد عانت بالفعل الكثير من الصعوبات في إنعاش اقتصادها بعد هذه الاضطرابات، كما أنّه أشار إلى أنّ شيعة جبل عامل لم ينالوا من الوطنيين أيّة مساعدة، بل كانوا موضع سخريتهم اللاذعة. ولقد كشفت القسوة في قمع العامليين من جهة، وعزلتهم من جهة أخرى "سقوط الجبل" بتعبير السيد عبد الحسين شرف الدين، أي جبل عامل، وقد اعتبر ذلك أساسياً في سقوط القضيّة السورية.

101

المفاهيم الرئيسة
1- اختير وادي الحجير مكاناً لاجتماع العامليين بكلّ شرائحهم: الزعماء والعلماء والوجهاء.

2- ألقى العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين خطاب الافتتاح مذكّراً بالموقف الحرج، وكان لخطابه أثره العظيم والكبير في توجيه النفوس ضدّ سياسة فرنسا المتّبعة.

3- كان كلام السيد شرف الدين عنيفاً يهدف إلى تعبئة العواطف ضدّ الفرنسيين. وقد عبّر بذلك عن وجهة نظر المؤتمرين باستقلال جبل عامل ضمن المملكة السورية التي دعوا إليها باسم الوحدة السورية.

4- انتخب الشيخ حسين مغنية رئيس العلماء ليرأس وفداً إلى دمشق لمناقشة ما اتّفق عليه مع فيصل، لكنّه اعتذر لكبر سنه.

5- صُدِّق بالإجماع على الوثيقة المتّخذة في المؤتمر، والتي تضمّنت الموافقة على القرارات الصادرة عن المؤتمر السوري، أي استقلال سوريا الشامل بإمرة فيصل، بلا تقسيم ولا حماية فرنسية.

6- نتيجة للمبالغات التي أعقبت عقد مؤتمر وادي الحجير، وإلى نقل وقائع المؤتمر مشوّهة أو محرّفة والتي كان من شأنها إثارة عواطف المسيحيين واستعداؤهم، فإنّ التوتّر ازداد في جبل عامل بين الشيعة والمسيحيين.

7- كانت تدابير القمع بحقّ الثوار وقراهم قد أثّرت تأثيراً عميقاً في العامليين ما يسمح بالقول إنّ الفلاحين أصيبوا بالرعب.
هوامش
1-  مؤتمر وادي الحجير: هو الاجتماع الحافل الذي دعا إليه العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين، وحضره وجهاء وثوّار جبل عامل في نيسان/ابريل من العام ألف وتسعمئة وعشرين ميلادية. وانعقد المؤتمر في منطقة وادي الحجير، أو ما بات يعرف بمقبرة الميركافا الإسرائيلية بعد عدوان 2006م على لبنان، وذلك بعيداً عن أعين الاحتلال الفرنسي. وكان الهدف منه إطلاق المقاومة ضدّ الانتداب وضدّ تقسيم الوطن العربي. والمعروف جداً لدى العامّة أنّ السيد عبد الحسين شرف الدين كان محور ورجل مؤتمر الحجير الذي قرّر الاستقلال التّام والانضمام إلى الوحدة السورية بزعامة الأمير فيصل. ولكنّ المجهول عند عامّة الناس أيضاً الجهود الحثيثة التي بذلها السيد عبد الحسين شرف الدين على قدميه لاستنهاض الجماهير لجمع التواقيع. وكان من الحضور المناضلان أدهم خنجر الصعبي و صادق حمزة الفاعور.
Envoyé de mon Ipad 

lundi 6 octobre 2014

إن ننسى فلن ننسى: كيروز بركات.. يا قمرعين إبل.. يا بدر الجبل | The Lebanese Forces Official Website

إن ننسى فلن ننسى: كيروز بركات.. يا قمرعين إبل.. يا بدر الجبل | The Lebanese Forces Official Website

إن ننسى فلن ننسى: كيروز بركات.. يا قمرعين إبل.. يا بدر الجبل

 

كتبت فيرا بو منصف في "المسيرة" – العدد 1422:

تنظر الى الصور. شاب بمنتهى الوسامة. أحلى من الوجه الأبيض والشعر الأشقر والقامة الطويلة، تلك البذة الخضراء. الأخضر الحشيشي اياه بلون الشجر والعشب والأغصان التي تغمر الجبال التي أحب. كيروز بركات أي مقاتل مناضل لا يذكر ذاك القائد المضرّج بكل معارك العزّ؟ في صوره يرسم الخرائط العسكرية الى جانب رفاق، في أخرى وهو بكامل عتاده الحربي، يبدو وكأنه على أهبة الرحيل الى واحدة من تلك الجبهات المترامية التي شهدت خبطة قدمه. وفي ثالثة يصافح الشيخ بشير… ورابعة وسادسة وعاشرة… ومن في "القوات اللبنانية" لا يعرف كيروز ذاك؟

وسيم حتى النجومية، انما نجومية من نوع آخر، هي تلك الشخصية التي تفرض وجودها بهالة ما أسبغها الخالق ولا نعرف كيف ولماذا "ما كان حدا يقدر يناقشو بأي قرار الا أنا لأني خيّو، بس يقول بدنا نهجم يعني هيدا يللي لازم يصير ونقطة ع السطر". انها نجومية اتخاذ القرار الحازم في الوقت المناسب، نجومية القلب القوي الذي لا يعرف التردد ولا الخوف ولا الاستسلام، نجومية الاقدام والمواجهة لحين تحقيق النصر، وكانت له الكثير من تلك المحطات.

 

"قلبو دايماً حاضر لكل المواجهات"، يسرد وبإعجاب شديد أخوه الذي رافقه في بعض من معاركه. "قلبه حاضر"، تعبير رائع يفسر لماذا كيروز بركات كان حاضراً في كل معارك المقاومة اللبنانية وعند كل الجبهات الخطرة، من الأشرفية الى تل الزعتر فالمتن الأعلى الى شكا وزحلة وآخرها معركة الجبل. منذ العام 1975 حتى العام 1983 لم يرتح يوماً، لم تنزل البندقية عن تلك الأكتاف المنتصبة كرامة. كان يعرف أنه وسيم وأن قلب الفتيات يلهف له، الكثير منهن، لكنه أحب واحدة ولحق بها حتى مصيره في الضوء، بندقية الشرف. هذه كانت نجوميته.

في كل معركة عنده حكاية، في تل الزعتر أنقذ العشرات من شبابنا حين حاصرهم الفلسطينيون في أحد المعامل فأنقذهم واحداً واحداً وحمل الجرحى على ظهره تحت وابل الرصاص. كان من أوائل الذين استخدموا المدفعية في الاشرفية واستبسل في حرب المئة يوم. في زحلة أصيب بقدمه فأصر على مواصلة القتال وهو جريح، وحتى الآن يروي رفاقه كيف احتل موقعاً للفلسطينيين في احدى تلال الجنوب عندما ذهب وهو اعزل بثيابه المدنية ولم يكن معه سوى ملالة وستة من رفاقه، وأوهم المسلحين أنه على رأس قوة كبيرة، فانسحبوا خوفاً واسترجع التلة التي كان يتمركز فوقها القناصة.

كانت الجبهة جزءأً من حياته اليومية، ولم تكن فكرة الشهادة بعيدة عن البيت. فأمه ابنة شهيد وأخت شهيد قبل أن تصبح لاحقاً والدة الشهيد، "كانت الوالدة تبارك كل خطواتو بس من دون ما تحكي" يقول أخوه، وفي كل المعارك كانت تصر على البقاء في بيروت لتتمكن التواصل معه. كان عليه أن يتصل بها كل يوم لتطمئن الى أنه ما زال على قيد الحب وان كان يعصف مقاومة على جبهات الموت، كانت تباركه وتبارك كل خطواته رغم الخوف العظيم عليه. هي من ربته على حب النضال من أجل الارض وهي من زرعت فيه شجاعة المواجهة. في باله كان يخطط لغير مشروع، كان يريد السفر الى الخليج بعد استكمال دراسته الجامعية وتخرجه من الجامعة اللبنانية باجازة في ادارة الاعمال، لكن سبقته الندّاهة الى غير رحلة، وعندما طالبته والدته مرة بأن يسافر خارج لبنان الى حين انتهاء الحرب قال لها "اذا فلينا كلنا مين بيبقى بلبنان ولمين بيبقى؟".

في كل معركة خاضها كان كيروز بركات ابن عين ابل الذي انضوى في "حراس الأرز"، وأصبح لاحقاً أمين سر هيئة الأركان العامة في "القوات اللبنانية"، كان يعرف أن كل الاحتمالات السيئة مفتوحة، لكنه كان يخوض معاركه على أساس النصر ولا شيء سوى النصر. في آخر معاركه ذهب وكأنه كان يعرف أنه لن يعود الا مكللاً بنجومية الشهادة.

هي معركة الجبل معركته الأخيرة. لم يكن مركزه فوق لكن طلب منه الالتحاق، فنزل من سوق الغرب لتنسيق الهجوم على الشويفات. كان أيلول، العاشر منه، الورق الأصفر يجتاح مساحات ما تبقى من اليف، نصحه كثر ألا يفعل، ألا يصعد الى هناك لأن القصة وخيمة والنصر يبدو بعيداً وثمة ما يحضّر للمنطقة، لكنه كان مؤمناً بعكس ذلك شأنه دائماً. لكنه ولأول مرة اتصل بأهله وألزمهم جميعاً العودة الى الجنوب والهرب من بيروت، كأنه كان يعرف أنه لن يراهم ثانيةً، فأراد أن يبعد الخطر عنهم ويطمئن اليهم. كانت آخر مهامه، انسدل ورق أيلول فوق آخر أوراق ربيعه، استشهد في قبرشمون، اخترقت رصاصة القلب القوي، توقفت المعركة حين توقف قلبه. 

انسدل ورق أيلول قوق آخر أوراق ربيعه.. استشهد في قبرشمون.. اخترقت رصاصة القلب القوي

وكان آخر شهيد في الجبل. كيروز بركات ولد في العام 1955 استشهد في العام 1983، هكذا كتب فوق قبره. لم يصدق أحد ان كيروز بركات تغلبه رصاصة، هو من جعل من المقاومة أيقونة ومن المواجهة ما يشبه عرس القلب حين يرقص على نغمات النصر، ذهب الوجه الوسيم الى شعاع المسيح، طارت النجومية الى حيث يليق بها، الى عمق السماء، فوق يضيء لنا الحكايات وليست أي حكايات، حكاية شاب اعتنق غير حب، حب لا غيرة فيه ولا منافسة الا مع تلك الاغصان التي تلفحه، أرز وسنديان، وذاك التراب التي يحويه، تراب هو بخور الأرض لنا في النجومية سفير فوق العادة، كيروز بركات، قلبه ما زال حاضراً وبقوة فينا… مشرقاً "قمراً" في عز الليل وفي عز النهار.

*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع "القوات اللبنانية" الالكتروني بالتعاون مع مجلة "المسيرة" ما عرضته في خانة "إن ننسى فلن ننسى" من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.

         



Envoyé de mon Ipad 

mercredi 2 avril 2014

احياء الاسبوع الثقافي السادس في مدرسة مار يوسف في عين ابل – AinEbel Municipality



2-4-2014 - احياء الاسبوع الثقافي السادس في مدرسة مار يوسف في عين ابل





الاسبوع الثقافي السادس في مدرسة مار يوسف – عين إبل
تحت شعار "علماء في يوم .. علماء دائما" ،
" Savants pour un jour … Savants pour toujours "
دعت مدرسة القديس يوسف في عين ابل بادارة راهبات القلبين الاقدسين الى حضور الاسبوع الثقافي السادس ٢٠١٣-٢٠١٤- بين ٧ و ١١ نيسان الجاري ، برعاية سعادة السفير الفينلندي في لبنان كاري كاهيليوتو .
يتضمن الاسبوع الثقافي ، جريا على تقليد الاسابيع السابقة : كلمة مديرة المدرسة الاخت الدكتوراه جوزفين نصر ، ثم كلمةالسفير الفنلندي ، وثلاث محاضرات اخرى تلقيها كل من :
-الاميرة حياة ارسلان بعنوان " دور المجتمع المدني في بناء الاوطان " ،
- والدكتوره فيروز فرح سركيس مديرة الجامعة العربية المفتوحة في لبنان بعنوان " اهمية الرياضيات في مختلف نواحي الحياة " ،
- والدكتوره هيام صقر رئيسة الجامعة الاميركية للعلوم والتكنولوجيا " ، بعنوان "اهمية التحصيل الجامعي في تهيئة الطالب الى مستقبل افضل " .
كما ويتخلل ايام الاسبوع اعمال فنية يقدمها تلامذة المدرسة من مختلف المراحل المدرسية .

الاسبوع الثقافي في عين ابل اصبح تقليدا تربويا اضافيا ومميزا يسجل على انجازات القرى اللبنانية النائية التي لا يمنع بعدها عن العاصمة والصعوبات الامنية والاقتصادية التي تعاني منها من تقديم المساهمة في عملية الثقافة والتنمية التكاملية التي من دونها لا حياة معها لا لقلب الوطن ولا لاطرافه.


Envoyé de mon Ipad 

vendredi 13 décembre 2013

حزب الله أوعز بخفض الكاميرات على طريق المطار قبل خطف صادر

حزب الله أوعز بخفض الكاميرات على طريق المطار قبل خطف صادر
نقلت صحيفة "المستقبل" عن مصادر واسعة الإطلاع أن "مضمون ملف اختطاف جوزيف صادر وبعض المعلومات الأولية، موجودة في محضر اجتماع اللجنة النيابية لحقوق الانسان التي ترأسها النائب ميشال موسى والتي حضرها عدد كبير من النواب من بينهم نواب "حزب الله" والنائب سامي الجميل، والتي حضرتها زوجة صادر، فيما تولى اللواء أشرف ريفي شرح مضمون هذا الملف للنواب ما أدى الى سجالات مع نواب حزب الله".

وكشفت المصادر بعض المعلومات المتعلّقة بعملية الاختطاف، فأشارت الى أنه "سبق تنفيذ عملية الخطف أمور مثيرة للريبة، أبرزها إقدام عناصر من "حزب الله" على الطلب من أصحاب المحال التجارية المنتشرة على طريق المطار قبل ثلاثة أيام من حصول الخطف، توجيه الكاميرات التي لديهم الى الأسفل كي لا ترصد الطريق العام، بحجة أن مسؤولين من المقاومة يرتادون هذه الطريق". وأوضحت إن "دورية لقوى الأمن الداخلي صودف وجودها في المكان تبعت السيارة الخاطفة باللوحة المزورة الى حيث انحرفت يميناً الى داخل الضاحية، وما لبثت أن توقفت بعد أن رفع الخاطفون السلاح بوجهها، ليصبح مصير صادر مجهولاً".

وقالت المصادر: "يكفي محضر الجلسة النيابية لحقوق الانسان وشهادة اللواء ريفي والنواب وزوجة صادر لتسليط بعض الضوء على هذا الملف، لكن المستغرب أن أحداً من النواب الحاضرين، وبعضهم من قوى 14 آذار لم يطلب نشر محضر هذه الجلسة المسجلة بالصوت والصورة والتدوين الكتابي، وفيها تؤكد زوجة صادر أن معلومات وصلتها بأنه كان هناك نية لاستبدال صادر بحكم أهمية المعلومات التي تقع تحت مسؤوليته حول حجوزات الطيران. كما سألت زوجة صادر اللواء ريفي في الجلسة حول وجود اشتباه بعمالة زوجها لاسرائيل وقد نفى الأخير أمام الجميع اي احتمال أن يكون صادر متعامل مع المخابرات الاسرائيلية".


Envoyé de mon Ipad 

samedi 14 septembre 2013

عين ابل تستعيد نسخة من أثريّة قيّمة لأنّ القانون الفرنسي يمنع إعادة المسروقات بعد 70 عاما | جنوبية

http://janoubia.com/20217-تذكير بخبر سابق

عين ابل تستعيد نسخة من أثريّة قيّمة لأنّ القانون الفرنسي يمنع إعادة المسروقات بعد 70 عاما

تعمل بلدية عين ابل، في قضاء بنت جبيل، جاهدة للبحث عن المكان المناسب لاقامة مجسّم خاص داخل البلدة تعرض فيه منحوتتها الأثرية، التي استطاعت البلدية استعادتها من متحف اللوفر في باريس، بعد أن عمد المؤرّخ الفرنسي "أرنست رينان" الى انتزاعها من أحد الأماكن الأثرية في البلدة بالعام 1860، بحسب رئيس البلدية فاروق بركات دياب، أثناء قيامه بجولة الى عين ابل ذلك العام للبحث في آثارها.


ويكشف دياب أن "رينان عثر حينها على صخرة كبيرة تعود الى العصر الروماني منحوت عليها الالهين (أبوبلون) المعروف بـ(البعل) و(ديانا) أرتميست) المعروفة بـ(ديانا مع سهمين وثورين تتوسطهما شجرة نخيل) فعمد الى قصّ الصخرة المنحوتة ونقلها معه الى باريس". وأوضح دياب أن "أحد أبناء بلدة عين ابل اكتشف حقيقة فقدان الصخرة بعد أن قرأ في كتاب للمؤرخ رينان تحدث فيه عن قصة الصخرة الأثرية، عندها بدأت البلدية عملية البحث عنها بالاستعانة بأحد أبناء البلدة ويدعى يوسف خريش الذي يعمل بالمركز الكاثوليكي للاعلام، والذي استعان بدوره بابن عمه يوسف خليل خريش الموجود في فرنسا: "بعد أن تبيّن لنا وجود الصخرة في متحف اللوفر في باريس، رحنا نوثّق الأدلّة التي تثبت ملكية الصخرة لعين ابل، واستمرت المفاوضات ابتداءّ من العام 2003 مع ادارة المتحف الى أن أقرّ المعنيون هناك بمشروعية ادعاء بلدية عين ابل بملكية المنحوتة الرومانية، لكنها بينت أن القانون الفرنسي لا يسمح باسترداد أي قطعة أثرية مضى على وجودها في فرنسا أكثر من 70 عاماً، لذلك قرّرت الادارة نحت مجسّم شبيه (طبق الأصل) عن الصخرة المسروقة، وارسالها لنا".

وقد تسلّم رئيس البلدية اللوحة الصخرية عبر ماري كلودين بيطار من مؤسسة "بروموريون" في 24 – 10- 2011 أي بعد أكثر من 151 سنة من سرقة اللوحة الأصلية، وبعد نحو 9 سنوات من المفاوضات مع متحف اللوفر.

يذكر أن الصخرة المسروقة كانت في محلّة الدوير في عين ابل، وهي منطقة أثرية، منهوبة في مراحل عدة، منذ حكم الجزّار أيام العثمانيين الى الاحتلال الاسرائيلي. وقد عمدت البلدية الى ايداع اللوحة في قاعة البلدية تمهيداً لنقلها الى مكان لائق في البلدة بعد الاستعانة بمهندسين متخصصين، بحسب ذياب.

اللاّفت أن منطقة بنت جبيل غنية بالآثارت القديمة جداً، التي يعود بعضها الى أيام الكنعانيين وقد تعرّضت المنطقة أثناء الاحتلال الاسرائيلي إلى عمليات سرقة منظمة، منها من قبل العدو الاسرائيلي، وبعضها يأياد لبنانية عندما نبشت الكثير من الأماكن في قرى وبلدات متعددة وعثر أثنائها على كميات كبيرة من النووايس والتحف الأثرية، وبعضها من الذهب الخالص، بحسب العديد من أبناء المنطقة، وقد تم بيعها الى جهات مجهولة. وقد عبّر ابناء عين ابل عن سعادتهم بانجاز البلدية هذا "الذي يعتبر انجازاً تاريخياً يحتذى به من قبل جميع البلديات لاستعادة آثارها المسروقة".  

مقالات ذات صلة >>



Envoyé de mon iPad jtk

samedi 6 juillet 2013

وثيقة الخوري يوسف فرح عن مجزرة عين ابل ١٩٢٠

وثيقة الخوري يوسف فرح  حول مجزرة عين ابل ١٩٢٠  

-  نقلا عن انطوان حنا فرح حفيد ابن شقيق الخوري يوسف فرح
اثبتناها هنا بعد تحويلها من صورة الى نص مقروء 

علما ان النص المخطوط سقطت منه الصفحة 7 

وهو لا يخلو من بعض الاخطاء الاملائية واللغوية

تحقيق ج ت خريش

وثيقة الخوري يوسف فرح حول مجزرة عين ابل 1920


صفحة ١ - في الأشهر الاخيرة من 1919 أخذت العصابات تعيث فسادا في جبل عامل فكانت تهاجم قرى المسيحيين وتسلب وتنهب غير هيابة و لا وجلة كأن ليس ثمة سلطة حاكمة يخشى الأشقياء صولتها. وكان في بعض فترات يحصل إعتداءات على أفراد من أبناء الشيعة ممن كانوا يتهمون بالولاء للحكومة الفرنسية. وبلغت وقاحة وجرأة الأشقياء أن هاجموا قاعدة القضاء صور ودب الذعر في قلوب اهليها والتجأوا الى المراكب الشراعية الراسية في البحر .
وكان أول من اشتهر أمره بقيادة العصابات المدعو صادق حمزة من قرية دبعال. وكان يتبعه القليل من الشبان. وكأن تغاضي الحكومة عن تعقب الأشقياء ومعاقبتهم أغرى غيرهم على أمتهان السلب لما فيه من كسب الغنائم ، وربما كان في الامر يد للسياسية لأن الأكثرية الساحقة من سكان جبل عامل يدينون بالإسلام من مذهب الشيعة وكان أمير مسلم وقتئذ يحكم في الشام على سورية فظن القوم أن خير وسيلة تضمهم لحكم الشريف فيصل أن يثيروا القلاقل ويكثروا المشاغب معلنين بذلك منهم استياءهم من الحكم الافرنسي ورغبتهم في الإنضمام إلى الحكومة العربية الشامية فيتم لهم ما يرغبون .
بدأت العصابات بمهاجمة صغرى القرى المسيحية فنهبت دردغيا والنفاخية وتبنين وبرعشيت ويارون .ولم يجسر الأشقياء على مهاجمة عين أبل لما بلغهم من تسلح أهلها واستعدادهم على المقاومة....( سطر غير واضح ) واخر اعمالهم القبيحة كان ...فشل صادق حمزة ( عندما) بعث يوما يطلب ماية ليرة عثمانية من عين ابل .
فعين إبل هي كبرى القرى المسيحية في جبل عامل ، قائمة على سفح أكمة تعلو نحو تسعماية متر عن مستوى البحر قريبة من الحدود الفلسطينية يكتنفها أكمات وأودية. تبعد عن مركز القضاء صور نحو ثلاثين كيلو مترا ً. يشتغل أهلها بحرث حقولهم ويعنون بغرس الزيتون والتين وغيرها من الأشجار المثمرة ويقتنون كغيرهم من القرويين الأبقار لحراثة حقولهم والجمال لنقل غلاتهم .وهذا الصنف من الحيوان أخذ بالتناقص بعد أن

يتبع ص ٢

صفحة ٢ - فتحت طرقات السيارات. وبعضهم يعتاشون من تربية الماعز والأغنام. خاف أهل عين أبل شر المصير حالما قويت شوكة العصابات وأهملت الحكومة أمر الأشقياء وتغاضت عن ملاحقتهم ولاسيما قد عظم في قرى الشيعة شأن الثائرين وأخذ القوم يتفاخرون بأعمالهم ويشيدون بإسمهم في اغانيهم وأهازيجهم الشعبية وأصبح ذكرهم لدى الجميع موضوع إجلال وإكرام ولاحظنا أن شعور الجميع يحبذ أعمالهم ويتمنى لهم التأييد والفنا إستعدادا لمعاضدتهم. فشكونا الأمر لحاكم القضاء وقتئذ الكابيتان ديلابا سيتيار وابدينا له مخاوفنا فكان جوابه لأبناء عين أبل أن نشطهم للدفاع عن حوزتهم ورد غارة من يهاجمهم وأن ليس لديه قوة عسكرية ليوزعها في الجبل وانه يعتمد على بسالتهم وسلمهم بعض الأسلحة.

رأى أبناء عين أبل أن لا سبيل إلى المساعدة من الحكومة وأن عليهم أن لا يتكلوا إلا على أنفسهم برد هجمات من حدثته نفسه بالإعتداء عليهم .فإتخذو ما أمكن من الحيطة حتى لا يؤخذوا على حين غرة ، فأنشأو نقاطا مختلفة في جهات القرية الاربع تقوم بالمراقبة حتى إذا أقبل عدو من أحدى الجهات تنذر القوم بالخطر. وقد أبت عليهم أنفتهم وحرصهم على صون كرامة الدولة المحتلة أن يلجأوا إلى زعماء البلاد يلتمسون حمايتهم .انما لم يكن يخطر لهم في بال أن يباغتوا بهجوم عمومي عليهم يشترك فيه عرب البدو وأكثر قرى الشيعة من جبل عامل من أقصاه إلى أدناه .كانوا يظنون ( انه) اذا صار إعتداء عليهم لا يقوم به سوى بعض عشرات أو مئات الأشقياء الذين التحقوا بالعصابات.

تلك كانت حال العصابات وشأنها في جهاتنا في اواخر نيسان 1920. وما كادت ترتفع الشمس في الفلك في الخامس من شهر ايار من تلك ألسنة حتى شاهد أهل عين ابل
يتبع ص ٣
---------

صفحة ٣ - جماهير أطلت على قريتهم من الجهة الغربية على مسافة أكتر من كيلومترين واحتشدت هنالك في ظل الأشجار فرابهم أمر تلك الجموع واخذوا يتساءلون في شأنهم واية ريبة لا تحدث عن تجمهر أقوام مسلحين في تلك الأيام تجاه قرية عرفها الجميع بشديد ولائها للافرنسيين بعد أن كان أكثر القرى المسيحية نهبت وتشتت أهلوها ، فقرّ رأي أوجه القرية أن يذهب بعضهم إلى بنت جبيل مرجع قرى الشيعة في جهاتنا وعميدتها ليستطلعوا منها أمر هذه الوفود وغايتها . فكان الجواب أن ليس هؤلاء إلا زائرين من جهات الشِعَب قاصدين مقام النبي يوشع القريب قدس على مسافة نحو ثلاث ساعات شرقي عين ابل لوفاء نذر عليهم وإلتماس شفاعة ذلك الولي. فعاد الرسل مطمئنين ،ثم تبعهم كتاب من أحد ألذوات في بنت جبيل يزيد القوم سكينة وإطمئنانا معلنا ً فيه أن عطوفة عميد البلاد المطاع الكلمة كامل بك الأسعد ساهر بعين يقظة على استباب الأمن يهمه راحة أبناء جبل عامل على إختلاف مذاهبهم ونزعتهم فلا يخشى أحد سؤا .والكتاب هذا كان يحمله أحد ضحايا الحادثة التي نأتي على ذكرها فاسفنا لضياعه. فهدأ انذاك روع القوم وإنصرف كل إلى عمله.

وما هي ساعة من الوقت أي عند ظهر النهار ألا وسمع دوي إطلاق بنادق لجهة القرية الشمالية فظن الأهالي أن الخفراء القائمين في تلك الجهة يتلاهون ويلعبون . وما عتم أن تكاثرت الطلقات وأخذت الجموع الكامنة منذ الصباح في الجهة الغربية تزحف نحو عين أبل وكان كما تقدم أكثر الأهالي في حقولهم يشتغلون فهب من كان في القرية إلى اسلحتهم وبادروا إلى خارج القرية فإذا عصابة كانت هاجمت رعاة غنم فتبعوها واسترجعوا الغنم لكن تلك العصابة لم تكن سوى طليعة لجماهير كانت محتشدة على بركة كونين . فما لبث أبناء عين أبل إلا ورأوا أقواما ً تزحف
بتبع ص ٤
-------

صفحة ٤ - من جهة الشمال وغيرهم من الشرق . وقد تقدم الاتين من الشمال بعضهم يحملون شارات السلم وفيهم السيد على جعفر من يارون ً الملقب بأبي جواريش واخذوا يصرخون في شبابنا أن احجبوا ولا تجعلوا سببا للعداء فقد أقنع الأعيان القوم أن يعودوا من حيث أتوا وما نحن إلا رسل سلام. فإنخدع ذوونا بكلامهم وأمسكوا عن أطلاق رصاصهم وعادوا إلى الوراء وما كان ذلك إلا خدعة . فما كاد شبابنا يرجعون حتى تقدم المهاجمون وأصلوا نقاط الخفراء نارا حامية وقتلوا بعضهم وكان أحد زعماء هذه الثورة أحمد محمود بزي من أوجه ألقوم في قرية بنت جبيل وهو أبن أخ الحاج محمد سعيد بزي الزعيم المعروف في جبل عامل . وتقدم المهاجمون نحو القرية وحاصروا الآهلين فيها وليس موقع قريتنا من المواقع الموافقة لقيام الحصار فيها وصد ألغارات عنها . فإن الحيطان المقامة أسوارا للحقول والصخور والمرتفعات والمنخفضات التي تكتنف القرية تحول بين المحاصر والمهاجم فلا يشاهد القادم إلى القرية من جهاتها الثلاث الشمالية والشرقية والجنوبية ألا حال وصوله القرية.

بدأت المعركة وأخذت الاهالي تقاوم بحماس وشجاعة. وكانت قواهم متفرقة في جهات القرية الاربع . وكان البعض منهم خارج القرية لأن الأعداء وعددهم لايقل عن الستة ألاف أحاط بالقرية من جميع جهاتها .وكانت النساء تتبعن المهاجمين وتنشدن وتزرغدن وتحملن الرصاص، ولم نكن من قبل نحسب حساباً لمثل هذا القيام العمومي على بلدة لم يسبق منها سيئات ضد جيرانها ولم يكن لها ذنب تلام عليه سوى ولاءها لفرنسا محامية المسيحيين منذ القدم. يقال ان الرسول أوصى بالجار خيرا ً وقد رأينا القوم لا يراعون ذمة الجوار.

---يتبع ص ٥

الصفحة ٥- ولا يبالون لوصية نبيهم فقد أتونا ونار البغضاء تتأجج في صدورهم والجشع في سفك دماء الجيران وإباحة أموالهم بملء فؤادهم.
ثبت كل من شبابنا في مراكزهم يدافعون مدافعة الأبطال ويبادلون المهاجم إطلاق الرصاص واوقفوا المهاجمين عن دخول القرية . غير أن عدد هؤلاء كان يتكاثر . وكانوا يتقدمون محجوبين عن الأنظار وراء الحيطان والمرتفعات .ولما قلّ ما بين يدي شباننا من الذخيرة واحاطهم القوم المهاجم من كل ناحية اخذوا يتراجعون. وما أحسوا عند الساعة الرابعة بعد الظهر الا ودخل بعض الأعداء القرية من جهتها الشمالية. وأول بيت دخلوه اضرموا النار فيه فتصاعد الدخان الكثيف في الفضاء وهلع سكان عين أبل حالما ايقنوا أن العدو استولى على قسم من بلدتهم ورأو أنه أمام تلك الجماهير العديدة لا وسيلة تنقذ من ... المداومة على مقاومة تلك الجماهير العديدة ولا وسيلة تنقذهم من المذبحة سوى الفرار.
وفكروا في باب النجاة وقد طوقهم القوم من كل صوب فرأوا أن خير وسيلة ( هي ) الإلتجاء إلى فلسطين و( هي) لا تبعد عنهم إلا بضع كيلومترات. فحولوا قوتهم إلى الجهة الجنوبية ليفتحوا أمامهم منفذاً للهرب وكانت الشمس قاربت الغروب .فأصلى الشبان القوم المهاجم من جهة الجنوب نارا ً حامية بما بقي معهم من خرطوش، فتبدد هؤلاء واخرج العينبليون تحميهم نيران شبانهم قاصدين فلسطين . لكنها كانت حال يفتت لها الكبد . كان رصاص الأعداء يصب عليهم وكل يفكر بنجاة نفسه فلم تع الأم على اولادها ولا الولد على أبيه الشيخ العاجز . فغادر الأكثرون القرية وبقي البعض من نساء وأطفال وشيوخ مختبئين في البلدة وتوجه
يتبع صفحة ٦
------

الصفحة ٦- الهاربون تحت الظلام إلى القرى الفلسطينية كل يقصد حيث له صديق أو نسيب . وأما الذين أقاموا في القرية مختبئين فقد هلك أكثرهم . فكأن جيراننا الشيعيين كانوا متعطشين لسفك الدماء فكان كلما دخل احدهم بيتا ًووجدفيه نسا ًء أوشيوخا ًأو أطفالا ً كان يمزقهم برصاص بندقيته . ولم يراعوا حرمة الصداقة  القديمة وعهود الإخاء . فمارون الخوري من اوجه بيت في عين أبل كان شيخا يناهز الخامسة والستين من العمر لم يغادر بيته ظنا ً منه أن ما بينه وبين آل بزي في بنت جبيل من علاقات المودة يقيه كل غائلة . لأن بيت الخوري مرتبطون بعهود اخاء مع البعض من آل بزي منذ أكثر من ستين سنة، وكان الكبار منهم يدعون بعضهم أخوة والشبان أولاد أعمام . فأتاه من كان لا يدعوه إلا أخاه محمود جابر فتلطفه وتودد إليه حتى إستلم ما كان يخبئه مارون من الدراهم . وبعد أن إستلم المال منه التفت إلى ابنه عقيل قائلا: "يا ابني أسرع واذبح عمك وعمتك" .وهذه أخت مارون الخوري وأكبر منه . وما أن سمع عقيل قول والده حتى خرق رصاص بندقيته صدر مارون ثم صدر مجيدة أخته. ويعقوب صادر كان من أعز أصدقاء أحمد محمود بزي وكان هذا يقيم في ضيافة يعقوب الأسبوع والاسبوعين والشهر حالما كان يقع خلاف بينه وبين ذويه في بنت جبيل. فصادف أن أحمد و هو كان من زعماء المهاجمين وجد يعقوب محاصرا ً في أحد بيوت عين أبل ولا يجرأ أحد أن يقرب من كمينه. وحالما عرفه صرخ عليه: يا أخي يعقوب لا تخف شرا أنا أخوك أحمد فعليك الأمان وأخذ يغلظ له الإيمان أن لا يمسه
يتبع صفحة ٧
-----


الصفحة السابعة مفقودة

-----


الصفحة ٨- لم يكن في أيدينا شيء من المال حالما غادرنا بلدتنا و لم نتمكن من أن نصحب شيئا معنا من المتاع وكنا بحاجة لكل شئ وما أفجعها من حالة اصبحنا عالة على المحسنين . ونحن في صفد جمهور كبير . فرق القوم هنالك لحالنا وأحسن إلينا المسيحيون والجمعيات الإسرائيلية واخذوا يوزعون علينا الطعام كل يوم ونحن لا نجرأ على الرجوع إلى وطننا . فقصدنا حيفا وكان هاجر إليها الكثيرون ممن تفرقوا في شتى الضيع الفلسطينية . وفي حيفا احتضننا كالأب الحنون سيادة صاحب المبرات العديدة والمآتي السامية المطران غريغوريوس حجار فمدنا ببعض المال لنبتاع كسوة للمحتاجين ووزع الدقيق على العيلات وأخذ البعض يرتزق بالعمل . وكان أرسل إلينا إلى حيفا حضرة المنسينيور فرنسيس الخوري النائب الأسقفي في صور شيئا ً من المال . ثم بعث حاكم صور مراكب شراعية لعودتنا إلى لبنان مع كتابة لحاكم حيفا لكي يسهل لنا أمر سفرنا فقابلنا الحاكم في حيفا وسلمناه كتاب حاكم صور، فسألنا اذا كان بودنا الرجوع إلى وطننا فأجبنا أن الشبان يعودون ويبقى في حيفا باقي الاهالي لان الأمن لم يستتب بعد عندنا، فطلب إلينا أن نكتب تقريرا ً فيه نفيد عن الحال ونبين ً أننا نخشى الرجوع إلى وطننا لعدم استقرار الأمن فرأينا في ألامر مساسا بالحكومة الإفرنسية فأبينا فلم يرق رفضنا هذا في عين الحاكم الإنكليزي وصرح لنا أنه لابد أن يضم قسم من لبنان الجنوبي إلى فلسطين وإن نهر القاسمية الليطاني سيكون حدود البلدين. عاد البعض إلى صور ثم من بعدها بمدة عاد باقي المهاجرين وكان أوفد حاكم صور (المراكب) السفائن ثانية.

-يتبع صفحة٩

الصفحة ٩ - في أثناء تلك المدة بعد حادث عين أبل بنحو اسبوعين حملت قوة من الجنود الافرنسية بقيادة الكولونيل نيجر على جبل عامل لتقتص من الثائرين . ولم يكن وقتئذ طرقات للسيارات فأتى العسكر من صور مئة بياده مشاة ومنه سواري على الخيل ووجهتهم بلدة تبنين حيث قلعة الصليبيين القديمة .وما أن علم الشيعيون بالامر حتى دب الحماس في قلوب بعضهم وهبوا لمقاومة الجنود الزاحفة. فاجتمع بعض مئات بقيادة زعماء المنطقة وعلى رأسهم الحاج محمد سعيد بزي من بنت جبيل . واختاروا قلعة تبنين المذكورة حصن يحاصرون فيه . وخطب الزعماء ينشطون رجالهم . لكن ما ( أن ) كادت جنود الحملة تقترب ويرى المحاصرون ما هنالك من القوة حتى ادركوا ضعفهم وايقنوا الهلاك أن هم قاوموا . وفروا هاربين من مكمنهم .فقصدت بعد ذلك الحملة بنت جبيل وتوغلت في داخلية البلاد لكن السكان كان الخوف قد استولى عليهم وهاجروا قراهم قاصدين فلسطين ولم تصادف الحملة مقاومة. ويا للعجب من هربهم فإنهم كانوا يدعون أنهم ثاروا ونهضوا في سبيل ضم جبل عامل الى الحكومة السورية، فهل يدركون بغيتهم وينالون أربهم دون أن يضحوا بنقطة دم من دمائهم فيفرون من وجه القوة حال ظهورها. الا يعلمون أن الشرف لا يسلم من الأذى ما لم تراق الدماء على جوانبه.

طافت الجنود في طول البلاد وعرضها بعد أن أرسل قائدها من تفقد حال عين أبل وشهد خرائبها وقدم له تقريرا ً بما رأى . وكان أصدر أمرهم بإطلاق المدافع على بيت محمود الأحمد في بنت جبيل وهو كما تقدم كان من زعماء الثائرين وتوجهت

---يتبع ص ١٠


الصفحة ١٠- إلى جهة الطيبة وقبل أن يبلغوها أرسل الكولونيل نيجر يستدعي اليه كامل بك الأسعد فأتى وتقابلا و ابدى له الكولونيل رغبته في زيارته فترحب به لكن أحد زعماء الشيعيين الذي كان يرافق الحملة أوعز الى البيك أن يغادر لبنان بحجة أن القائد يضمر له الشر, فعمل بنصيحة الزعيم الشيعي وترك داره ليلاً ولجاء إلى فلسطين وحالما حضر الكولونيل نيجر في الغد إلى الطيبة وجد دار الكامل خالية من السكان وكان رافق الحملة بعض شبابنا من العينبليين من حين خروجها من صور وحال مرورهم في بنت جبيل حرقوا بعض بيوتها ساعدهم في ذلك سكان القرى اﻟﻤﺠاورة الذين كانوا اتوها بقصد سلب ما تركه أهلها فيها بعد مهاجرتهم .
وبعد ذلك بمدة دعي أوجه البلاد إلى اجتماع في صيدا خطب فيه الكولونيل نيجر وأعلن فرض غرامة على الشيعيين في جبل عامل قدرها مائة ألف ليرة عثمانية ذهبا ً وحكم بالإعدام على نحو أربعين من زعماء الشيعة منهم كامل البك الأسعد وكل المحكومين كانوا مهاجرين الى فلسطين وأخذت الحكومة تجمع الغرامة بإستدعاء الرؤساء اليها ووضع المسؤولية على كل منهم بجمع المال من أهل قريته و ما مرت بضعة اسابيع حتى دفعت القيمة كاملة. أما المحكومون اعداما فقد صدر عنهم عفو بعد أشهر وعادوا إلى بيوتهم امنين .
لم يكن رجوع مهاجري عين أبل إلى بلدتهم في آن واحد فكما تقدم كان تشتت أهالي عين أبل في أماكن مختلفة من فلسطين وأكثرهم ذهب إلى حيفا ومن كان منهم قريبا من الحدود كان يتفقد البلدة خلسة في الليل ويدفنون ما يعثرون عليه من جثث قتلى الحادثة. وفي أوائل شهر حزيران

يتبع صفحة ١١

--الصفحة ١١-
بدأوا يعودون أفواجا ً وكانت البلدة بهيئة كئيبة ينفطر لها الفؤاد وتفتت الكبد. فكان الداخل إليها يشعر كأنه بين أنقاض خرائب قديمة .كانت النار التهمت أكثر البيوت والتي لم تحرقها النار كانت دمرت سقوفها ونهبت اخشابها وابوابها . فقد علم القارئ أننا أخذنا على حين غرة ولم نتمكن أن ننقذ شيء من مقتنياتنا حال هربنا وأن الثوار اعملوا النار في القرية حين استيلائهم عليها . فرأينا حين رجوعنا المساكن خربة وكل مقتنياتنا من مواشي وأثاث إلى غير ذلك مما ورثناه عن ابائنا وإقتنيناه لانفسنا كل ما نملك كان نهب وأكلته النيران، ووجدنا في الشوارع بعض عظام من بقايا قتلانا الذين لم يتوفق دفنهم قبلا فجمعناها بإكرام وواريناها التراب. وكان عدد الضحايا منا إثنين وأربعين قتيلا  ً أكثرهم من النساء والشيوخ الذين لم يستطيعوا إلى الهرب سبيلا ً وقضى عليهم جيراننا الشيعيون ولم ً تتحرك في قلبهم عاطفة الانسان على ضعفاء عاجزين لم يحملوا سلاحا و لا يستطيعون مقاومة.

ان القتلى من المهاجمين لم نعلم عددهم لأننا غادرنا محل الموقعة هاربين وكان الثائرون بعد ذلك يتكتمون في الأمر لكي لا تلصق في قراهم تهمة الهجوم على عين أبل ويضطرون لتحمل دفع قيمة كبيرة من الغرامة وعلمنا بعد حين أن القتلى منهم لم يكونوا أقل عددا ً من قتلانا. أن عين أبل لم تنل نصيبا ً وفيا ً من التعويض عما اصابها من الخسائر في تلك النكبة فالحكومة لم تصلح شيئا ً مما  ًكان حرق وهدم من المساكن كما فعلت في حاصبيا واكتفت أن تدفع مبلغا من المال لكل من الأهلين لا توازي قيمة عشر ما فقد

---يتبع ص ١٢


الصفحة ١٢- فمجموع ما دفع من المال لاهالي عين أبل لا توازي قيمته ثمن ما سلب منها من المواشي من ابقار وخيل وماعز وغيره، وكل يعلم ما كانت عليه الحاجيات والمواشي من ألاثمان في تلك السنين، فإن أحدنا مختار القرية أسعده الحظ بإنقاذ فرس من النهب وحال وصوله  ً إلى صفد باع نصوتها(؟) بمائة وخمسين ليرة مصرية وبعضهم أنقذ قطيعا من الماعز كان يبيع الواحدة منه من الثلاث ليرات مصرية إلى الخمس ليرات. وحالما أخذنا بابتياع بعض المواشي نستعين بها على العمل كنا نشتري رأس البقر من الخمس عشرة ليرة مصرية إلى الخمسين ليرة.
ولما باشرنا ترميم مساكنا كنا ندفع للمعلم العمار أو النجار من الثمانين قرش مصرية إلى المئة ونقدم له ألمؤونة.
إن نكبة سنة العشرين كانت وطأتها علينا مع حفظ المناسبة مثل وطأة الحرب الكبرى على المدن والقرى التي دمرتها مدافع الأعداء بل أشد لان بلدتنا خربت كل بيوتها وسلبت كل موجوداتها ولذلك اضطر الكثيرون منا على المهاجرة إلى فلسطين لعدم استطاعتهم ترميم بيوتهم ليسكنوها .ولم يعودوا إلى ألان ولم تزل بيوتهم خربة ولكن مهاجرتهم كانت خيرا لهم لأنهم ألان في حيفا برخاء ورغد فبنوا بيوتا فيها، ومنهم اصبحوا من المثريين عندهم دخل شهري من اجارات مساكن ثلاثون وأربعون ليرة فلسطينية
فكم من نقمة تعود على ضحيتها خيرا . ولاعجب فإن فلسطين الان عموما برخاء واسعة عيش يحسدها عليهما جيرانها من اللبنانين .وكم من لبناني يتمنى أن يتيسر له المهاجرة إلى فلسطين.

-------
 jtk